حروفنا المألوفة، ولكن الوجدان والتتبع شاهدان بأن كل من لا يعرف لغة فإنه لا يميز حروفها إذا سمع من يتكلم بها، بل يشذ عن سمعه كثير من حروفها فيحسبها صوتا مشتملا على حرفين أو ثلاثة وإن كانت في الحقيقة مشتملة على جميع أنواع الحروف، فإن العربي إذا سمع الزنجي أو الهندي أو التركي أو الإنكليزي مثلا يتكلم لم يميز من حروفه إلا قليلا، ويخفى بل يشتبه على سمعه أغلب منطوقها مع أنها الحروف الموجودة في اللغة العربية ولكن اللهجة وغرابة اللغة وجهل المعنى تحول بين السمع وبين تمييز جميع الحروف بحدودها.
ولأجل ما ذكرناه اختلج في أذهان بعض الحكماء أن يرصدوا أصوات بعض الحيوانات في مختلفات أحوالها ومقاصدها لكي يعرفوا وضع لغاتها وحروفها، وأظن الذي صدهم عن ذلك أنهم لم يتصورا لهذا العناء العظيم في المدة الطويلة نتيجة تخرجه عن حدود العبث وتضييع الوقت.
والحاصل إن الجزم بأن الحيوانات ليس لها في تفننها بأصواتها أوضاع تنطبق على مقاصدها كما ينطق كلام البشر على مقاصدهم إنما هو جزم لا يساعد عليه دليل ولا برهان، ولا مشاحة بأن يدعى أن لغات الحيوانات أبسط من لغات البشر كبساطة لغة الطفل في مبادئ نطقه مثلا، وقد شاهدنا من الأطيار الببغاء الأخضر والأسود وهو يتكلم بكلام البشر في موارد كثيرة تمرن عليها ووجدناه يستعملها معهم في بيان مقاصده.
هذا، وأما كون الحيوانات تدرك فهو مما لا ينبغي أن يرتاب فيه ذو إدراك وإنما الكلام في أن إدراكها هل هو محض شعور بالموارد الجزئية وإن صدرت منها الأفعال العجيبة والأحوال الباهرة من حيث الصناعات والحيل والذاكرة أو أن هذه الإدراكات الجزئية ناشئة عن تعقل للكليات وتطبيقها على الموارد الجزئية، ولا سبيل إلى البرهان القاطع على أنها لا تعقل الكليات، نعم لا مشاحة في دعوى كونها مهما بلغت أبسط من نوع البشر في أنحاء المعقول، وإن كان من البشر من لو حاكمته بعض الحيوانات وقالت له: بأي حق وبأي إنصاف أنك تدعي أنك تعقل وأن الحيوانات لا تعقل لضاق على العدل مجال الحكومة، أو حكم لها إذا شرحت له من أحواله وأقواله ما يزيد في السخافة على عبثيات