انتعشت جمعيتهم بعد سبي بابل كالطفل المولود جديدا، وليس لهم من يذكر لهم شيئا من كتب أسلافهم إلا عزرا، فصارت جمعيتهم بعد ذلك تتطلب آثار أسلافها فتحتفل بما يخادعها به الوقت احتفالها بالحقائق حيث تموه عليها الأماني والحرص على آثار السلف أنه هو ضالتها المطلوبة، (وأنى وقد عصفت عليها عواصف البلا) فتداركوا التفريط بالإفراط، فلا عذر لأحد عند الله في الاعتماد على اتفاقهم مع ما لله علينا من الحجج وأيسرها ما نشاهده من تعبد اليهود في جميع نسخ العالم لكتاب العهد القديم العبراني بالوضع المملوء بالغلط الفاحش بجميع أنواع الغلط، كما يعرف ذلك من متنه والتراجم والحواشي والقرائن القطعية فتعلم من ذلك بالعلم اليقين أنهم أخذوا جميع ما عندهم من نسخة واحدة مشوهة بما يملأها من الغلط فاحتفلوا بها بالتعبد بصورتها، كما ذكرنا، (فإن قلت) إن تعبدهم بأجمعهم بصورة النسخة المغلوطة التي تذكرها لا ينافي وجود نسخ صحيحة كثيرة في وقتها، (قلت) إذا جوزت عليهم هذا الفرض كان البلاء أعظم، فإن كل سبب تفرضه لصرفهم عن النسخ الصحيحة إلى التعبد بهذه النسخة المغلوطة بهذا الغلط الفاحش هو كاف في سخافة الاعتماد على نقلهم واتفاقهم، فتحر رشدك وافتكر في هذا الشأن.
وأما المسيحيون فلا تغتر بحرية أفكارهم وانتشار كتبهم في هذه الأدوار ولا تتوهم أن قديمهم كحديثهم في حرية الفكر وانتشار الكتب وتتداول البحث بين عموم جامعتهم لكي تتوهم من اتفاقهم شيئا، بل إن أفكارهم في أمر الديانة والكتب في القديم كانت مستعبدة لأحكام المجامع المؤلفة من بعض الأساقفة بحكم الأمراء والسلاطين لقطع النزاع، وسد باب البحث في مبادئ الديانة واعتبار الكتب.
ولا يلزم أن نقول إن هؤلاء كانت تلجأهم الدواعي إلى التواطئ على تسليم أمر مشكوك أو ممنوع، بل يكفي أن نقول إن الشواهد وكلمات كتابهم تكشف لنا عن أن مبادئ آرائهم المتفقة في أمر الكتب هي أمور اعتبارية، أقواها اتفاق اليهود على الكتب الفلاني من العهد القديم، (وقد عرفت حال كتبهم وحال اتفاقهم فيها)، أو مشابهة بعض ألفاظ الكتاب لكلمات الأسقف