لكان منى في علي رأي يكفي امرءا ذا حسب ودين، ثم انصرفوا جميعا عن معاوية غاضبين، ولكنه لم يدعهم يبيتون في غيظهم، فصالحهم (وأرضاهم من نفسه، ووصلهم بأموال جليلة).
وإذ رأى معاوية أن الدائرة توشك أن تدور عليه، وأن عليا يوشك أن يكسب الحرب، قال لعمرو: قد رأيت أن أكتب لعلي كتابا أسأله الشام - وهو الشئ الأول الذي ردني عنه وألقى في نفسه الشك والريبة. فضحك عمرو قائلا: أين أنت يا معاوية من خدعة علي؟. فقال: ألسنا بني عبد مناف، قال عمرو: بلى، ولكن لهم النبوة دونك، وإن شئت أن تكتب فاكتب.
فكتب معاوية لعلي: أما بعد، فإني أظنك أن لو علمت أن الحرب تبلغ بنا وبك ما بلغت وعلمنا، لم يجنها بعضنا على بعض، وإنا قد غلبنا على عقولنا فقد بقي لنا منها ما نندم به على ما مضى، ونصلح به ما بقي، وقد كنت سألتك الشام على ألا يلزمني لك طاعة ولا بيعة، فأبيت ذلك علي فأعطاني الله ما منعت، وأنا أدعوك اليوم إلى ما دعوتك إليه أمس، فإني لا أرجو من البقاء إلا ما ترجو، ولا أخاف من الموت إلا ما تخاف، وقد والله رقت الأجناد، وذهبت الرجال، ونحن بنو عبد مناف ليس لبعضنا على بعض فضل إلا فضل لا يستذل به عزيز، ولا يسترق به حر والسلام.
فلما قرأ الإمام كتاب معاوية قال: العجب لمعاوية وكتابه!.
ثم كتب إلى معاوية: أما بعد، فقد جاءني كتابك تذكر أنك لو علمت وعلمنا أن الحرب تبلغ بنا وبك ما بغلت لم يجنها بعضنا على بعض. فإنا وإياك منها في غاية لم نبلغها، وإني لو قتلت في ذات الله وحييت، ثم قتلت ثم حييت سبعين مرة، لم أرجع عن الشدة في ذات الله، والجهاد لأعداء الله.
وأما قولك أنه قد بقي من عقولنا ما نندم به على ما مضى، فإني ما نقضت عقلي، ولا ندمت على فعلي.