القول الثاني: أن حسن العدل وقبح الظلم ليس من المدركات الأولية لا للعقل ولا للحس ولا للوهم، وإنما يحصل التصديق الجازم بهما نتيجة التأديب والتربية الاجتماعية العقلائية، ومن هنا قال ابن سينا بأن الإنسان لو خلق فريدا وحيدا لما أدرك بعقله حسن العدل وقبح الظلم.
وفيه أن هذا القول غريب جدا، إذ كيف يمكن إنكار ما هو مدرك بالوجدان، وقد مر أن قضية الحسن والقبح من القضايا الفطرية الأولية، والمعيار في أولية القضية ما كان ثبوت المحمول للموضوع ضروريا كما في قضية الأربعة زوج، فإنها قضية أولية مضمونة الحقانية، وهذا المعيار ينطبق على قضيتي حسن العدل وقبح الظلم، فإن ثبوت الحسن للعدل ضروري مضمون الحقاني وثبوت القبح للظلم كذلك، ومن هنا يكفي مجرد إدراك الطرفين والنسبة بينهما للتصديق الجزمي بهما، ضرورة أن الإنسان إذا تصور العدل وتصور الحسن والنسبة بينهما، حصل له الجزم بثبوت الحسن للعدل، وكذلك إذا تصور الظلم وتصور القبح والنسبة بينهما، تيقن بشكل قاطع بثبوت القبح له، وهذا هو المعيار في أولية القضية.
إلى هنا قد تبين أن الصحيح هو كون الحسن والقبح أمران واقعيان ثابتان في لوح الواقع ويدركهما العقل العملي بالفطرة والوجدان، فكونهما من أحكام العقل العملي، فإنما هو بلحاظ ارتباطهما بالعمل واقتضائهما جريا عمليا على طبقهما بشكل مباشر، فإن معنى حسن فعل هو أنه ينبغي صدوره في الخارج، ومعنى قبح فعل هو أنه لا ينبغي صدوره فيه، فمن أجل ذلك يكونا من أحكام العقل العملي لا أنهما كالأحكام الشرعية المجعولة في الشريعة المقدسة، فإذن يفترق المدرك للعقل العملي عن المدرك للعقل النظري في نقطة وتشترك معه في نقطة أخرى، أما نقطة الافتراق فلأن المدرك للعقل العملي يقتضي بطبعه