وقوله تعالى " واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا " قيل " بحبل الله " أي بعهد الله كما قال في الآية بعدها " ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس " أي بعهد وذمة وقيل " بحبل من الله " يعني القرآن كما في حديث الحارث الأعور عن علي مرفوعا في صفة القرآن " هو حبل الله المتين وصراطه المستقيم ".
وقد ورد في ذلك حديث خاص بهذا المعنى فقال الإمام الحافظ أبو جعفر الطبري: حدثنا سعيد بن يحيى الأموي حدثنا أسباط بن محمد عن عبد الملك بن سليمان العزرمي عن عطية عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض ".
وروى ابن مردويه من طريق إبراهيم بن مسلم الهجري عن أبي الأحوص عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن هذا القرآن هو حبل الله المتين وهو النور المبين وهو الشفاء النافع عصمة لمن تمسك به ونجاة لمن اتبعه " وروى من حديث حذيفة وزيد بن أرقم نحو ذلك وقال وكيع حدثنا الأعمش عن أبي وائل قال:
قال عبد الله: إن هذا الصراط محتضر يحضره الشياطين: يا أبا عبد الله هذا الطريق هلم إلى الطريق فاعتصموا بحبل الله فإن حبل الله القرآن.
وقوله " ولا تفرقوا " أمرهم بالجماعة ونهاهم عن التفرقة. وقد وردت الأحاديث المتعددة بالنهي عن التفرق والامر بالاجتماع والائتلاف كما في صحيح مسلم من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن الله يرضى لكم ثلاثا ويسخط لكم ثلاثا يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم ويسخط لكم ثلاثا: قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال " وقد ضمنت لهم العصمة عند اتفاقهم من الخطأ كما وردت بذلك الأحاديث المتعددة أيضا. وخيف عليهم الافتراق والاختلاف فقد وقع ذلك في هذه الأمة فافترقوا على ثلاث وسبعين فرقة منها فرقة ناجية إلى الجنة ومسلمة من عذاب النار وهم الذين على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
وقوله تعالى " واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا " إلى آخر الآية وهذا السياق في شأن الأوس والخزرج فإنه قد كان بينهم حروب كثيرة في الجاهلي وعداواة شديدة وضغائن وإحن وذحول طال بسببها قتالهم والوقائع بينهم فلما جاء الله بالاسلام فدخل فيه من دخل منهم صاروا إخوانا متحابين بجلال الله متواصلين في ذات الله متعاونين على البر والتقوى قال الله تعالى " هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم " إلى آخر الآية وكانوا على شفا حفرة من النار بسبب كفرهم فأنقذهم الله منها أن هداهم للايمان. وقد امتن عليهم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قسم غنائم حنين فعتب من عتب منهم بما فضل عليهم في القسمة بما أراه الله فخطبهم فقال " يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي وكنتم متفرقين فألفكم الله بي وعالة فأغناكم الله بي؟ " فكلما قال شيئا قالوا: الله ورسوله أمن. وقد ذكر محمد بن إسحاق بن يسار وغيره: أن هذه الآية نزلت في شأن الأوس والخزرج. وذلك أن رجلا من اليهود مر بملا من الأوس والخزرج فساءه ما هم عليه من الاتفاق والألفة فبعث رجلا معه وأمره أن يجلس بينهم ويذكر لهم ما كان من حروبهم يوم بعاث وتلك الحروب ففعل فلم يزل ذلك دأبه حتى حميت نفوس القوم وغضب بعضهم على بعض وتثاوروا ونادوا بشعارهم وطلبوا أسلحتهم وتواعدوا إلى الحرة فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأتاهم فجعل يسكنهم ويقول " أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟ " وتلا عليهم هذه الآية فندموا على ما كان منهم فاصطلحوا وتعانقوا وألقوا السلاح رضي الله عنهم وذكر عكرمة أن ذلك نزل فيهم حين تثاوروا في قضية الإفك والله أعلم.