قال " إن إبراهيم حرم مكة ودعا لأهلها. وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة وإني دعوت في صاعها ومدها بمثلي ما دعا به إبراهيم لأهل مكة " وعن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " اللهم إن إبراهيم حرم مكة فجعلها حراما وإني حرمت المدينة حراما ما بين مأزميها أن لا يهراق فيها دم ولا يحمل فيها سلاح لقتال ولا يخبط فيها شجرة إلا لعلف اللهم بارك لنا في مدينتنا اللهم بارك لنا في صاعنا اللهم بارك لنا في مدنا اللهم اجعل مع البركة بركتين " الحديث رواه مسلم والأحاديث في تحريم المدينة كثيرة وإنما أوردنا منها ما هو متعلق بتحريم إبراهيم عليه السلام لمكة لما في ذلك من مطابقة الآية الكريمة وتمسك بها من ذهب إلى أن تحريم مكة إنما كان على لسان إبراهيم الخليل وقيل إنها محرمة منذ خلقت مع الأرض وهذا أظهر وأقوى والله أعلم.
وقد وردت أحاديث أخر تدل على أن الله تعالى حرم مكة قبل خلق السماوات والأرض كما جاء في الصحيحين عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال سول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة " إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة. وإنه لم يحل القتال فيه لاحد قبلي ولم يحل لي إلا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد شوكه ولا ينفر صيده ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها ولا يختلى خلاها " فقال العباس: يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقينهم ولبيوتهم فقال " إلا الإذخر " وهذا لفظ مسلم ولهما عن أبي هريرة نحو من ذلك ثم قال البخاري بعد ذلك: وقال أبان بن صالح عن الحسن بن مسلم عن صفية بنت شيبة: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم مثله وهذا الذي علقه البخاري رواه الإمام أبو عبد الله بن ماجة عن محمد بن عبد الله بن نمير عن يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق عن أبان بن صالح عن الحسن بن مسلم بن يناق عن صفية بنت شيبة: قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب عام الفتح فقال " يا أيها الناس إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض فهي حرام إلى يوم القيامة لا يعضد شجرها ولا ينفر صيدها ولا يأخذ لقطتها إلا منشد " فقال العباس: إلا الإذخر فإنه للبيوت والقبور فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إلا الإذخر " وعن أبي شريح العدوي أنه قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكة ائذن لي أيها الأمير أن أحدثك قولا قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد من يوم الفتح سمعته أذناي ووعاه قلبي وأبصرته عيناي حين تكلم به - إنه حمد الله وأثنى عليه ثم قال " إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ولا يعضد بها شجرة فإن أحدا ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم. وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس فليبلغ الشاهد الغائب " فقيل لأبي شريح ما قال لك عمرو؟ قال أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح إن الحرم لا يعيذ عاصيا ولا فارا بدم ولا فارا بخربة رواه البخاري ومسلم وهذا لفظه.
فإذا علم هذا فلا منافاة بين هذه الأحاديث الدالة على أن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض وبين الأحاديث الدالة على أن إبراهيم عليه السلام حرمها لان إبراهيم بلغ عن الله حكمه فيها وتحريمه إياها وأنها لم تزل بلدا حراما عند الله قبل بناء إبراهيم عليه السلام لها كما أنه قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مكتوبا عند الله خاتم النبيين وان آدم لمنجدل في طينته ومع هذا قال إبراهيم عليه السلام " ربنا وابعث فيهم رسولا منهم " الآية وقد أجاب الله دعاءه بما سبق في علمه وقدره. ولهذا جاء في الحديث أنهم قالوا: يا رسول الله أخبرنا عن بدء أمرك. فقال " دعوة أبي إبراهيم عليه السلام وبشرى عيسى ابن مريم ورأت أمي كأنه خرج منها نور أضاء له قصور الشام " أي أخبرنا عن بدء ظهور أمرك كما سيأتي قريبا إن شاء الله.
وأما مسألة تفضيل مكة على المدينة كما هو قول الجمهور أو المدينة على مكة كما هو مذهب مالك وأتباعه فتذكر في موضع آخر بأدلتها إن شاء الله وبه الثقة. وقوله تعالى إخبارا عن الخليل أنه قال " رب اجعل هذا بلدا آمنا " أي من الخوف لا يرعب أهله وقد فعل الله ذلك شرعا وقدرا. كقوله تعالى " ومن دخله كان آمنا " وقوله " أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم " إلى غير ذلك من الآيات وقد تقدمت الأحاديث في تحريم القتال فيه: وفي