اعلم أنه تعالى لما ذكر حال الفجار المطففين، أتبعه بذكر حال الأبرار الذين لا يطففون، فقال: * (كلا) * أي ليس الأمر كما توهمه أولئك الفجار من إنكار البعث ومن أن كتاب الله أساطير الأولين. واعلم أن لأهل اللغة في لفظ * (عليين) * أقوالا، ولأهل التفسير أيضا أقوالا، أما أهل اللغة قال أبو الفتح الموصلي: * (عليين) * جمع علي وهو فعيل من العلو، وقال الزجاج: إعراب هذا الاسم كإعراب الجمع لأنه على لفظ الجمع، كما تقول: هذه قنسرون ورأيت قنسرين، وأما المفسرون فروي عن ابن عباس أنها السماء الرابعة، وفي رواية أخرى إنها السماء السابعة، وقال قتادة ومقاتل: هي قائمة العرش اليمنى فوق السماء السابعة، وقال الضحاك: هي سدرة المنتهى، وقال الفراء: يعني ارتفاعا بعد ارتفاع لا غاية له، وقال الزجاج: أعلى الأمكنة، وقال آخرون: هي مراتب عالية محفوظة بالجلالة قد عظمها الله وأعلى شأنها، وقال آخرون: عند كتاب أعمال الملائكة، وظاهر القرآن يشهد لهذا القول الأخير لأنه تعالى قال لرسوله: * (وما أدراك ما عليون) * تنبيها له على أنه معلوم له، وأنه سيعرفه ثم قال: * (كتاب مرقوم * يشهده المقربون) * فبين أن كتابهم في هذا الكتاب المرقوم الذي يشهده المقربون من الملائكة، فكأنه تعالى كما وكلهم باللوح المحفوظ فكذلك يوكلهم بحفظ كتب الأبرار في جملة ذلك الكتاب الذي هو أم الكتاب على وجه الإعظام له ولا يمتنع أن الحفظة إذا صعدت بكتب الأبرار فإنهم يسلمونها إلى هؤلاء المقربين فيحفظونها كما يحفظون كتب أنفسهم أو ينقلون ما في تلك الصحائف إلى ذلك الكتاب الذي وكلوا بحفظه ويصير علمهم شهادة لهؤلاء الأبرار، فلذلك يحاسبون حسابا يسيرا، لأن هؤلاء المقربين يشهدون لهم بما حفظوه من أعمالهم، وإذا كان هذا الكتاب في السماء صح قول من تأول ذلك على أنه في السماء العالية، فتتقارب الأقوال في ذلك، وإذا كان الذي ذكرناه أولى.
واعلم أن المعتمد في تفسير هذه الآية ما بينا أن العلو والفسحة والضياء والطهارة من علامات السعادة، والسفل والضيق والظلمة من علامات الشقاوة، فلما كان المقصود من وضع كتاب الفجار في أسفل السافلين، وفي أضيق المواضع إذلال الفجار وتحقير شأنهم، كان المقصود من وضع كتاب الأبرار في أعلى عليين، وشهادة الملائكة لهم بذلك إجلالهم وتعظيم شأنهم، وفي الآية وجه آخر، وهو أن المراد من الكتاب الكتابة، فيكون المعنى أن كتابة أعمال الأبرار في عليين، ثم وصف عليين بأنه كتاب مرقوم فيه جميع أعمال الأبرار، وهو قول أبي مسلم.
أما قوله تعالى: * (كتاب مرقوم) * ففيه تأويلان أحدهما: أن المراد بالكتاب المرقوم كتاب أعمالهم والثاني: أنه كتاب موضوع في عليين كتب فيه ما أعد الله لهم من الكرامة والثواب، واختلفوا في ذلك الكتاب، فقال مقاتل: إن تلك الأشياء مكتوبة لهم في ساق العرش. وعن ابن عباس أنه مكتوب في لوح من زبرجد معلق تحت العرش. وقال آخرون: هو كتاب مرقوم بما يوجب سرورهم، وذلك بالضد من رقم كتاب الفجار بما يسوءهم، ويدل على هذا المعنى قوله: