واعلم أن ترك إكرام اليتيم على وجوه أحدها: ترك بره، وإليه الإشارة بقوله: * (ولا تحاضون على طعام المسكين) * والثاني: دفعه عن حقه الثابت له في الميراث وأكل ماله، وإليه الإشارة بقوله تعالى: * (وتأكلون التراث أكلا لما) * والثالث: أخذ ماله منه وإليه الإشارة بقوله: * (وتحبون المال حبا جما) * أي تأخذون أموال اليتامى وتضمونها إلى أموالكم، أما قوله: * (ولا تحضون على طعام المسكين) * قال مقاتل: ولا تطعمون مسكينا، والمعنى لا تأمرون بإطعامه كقوله تعالى: * (إنه كان لا يؤمن بالله العظيم * ولا يحض على طعام المسكين) * (الحاقة: 34, 33) ومن قرأ ولا تحاضون أراد تتحاضون فحذف تاء تتفاعلون، والمعنى: * (يحض بعضكم بعضا وفي قراءة ابن مسعود: * (ولا تحاضون) * بضم التاء من المحاضة.
أما قوله: * (وتأكلون التراث أكلا لما) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قالوا: أصل التراث وراث، والتاء تبدل من الواو المضمومة نحو تجاه ووجاه من واجهت.
المسألة الثانية: قال الليث: اللم الجمع الشديد، ومنه كتيبة ملمومة وحجر ملموم، والآكل يلم الثريد فيجعله لقما ثم يأكله ويقال لممت ما على الخوان ألمه أي أكلته أجمع، فمعنى اللم في اللغة الجمع، وأما التفسير ففيه وجوه أحدها: قال الواحدي والمفسرون: يقولون في قوله: * (أكلا لما) * أي شديدا وهو حل معنى وليس بتفسير، وتفسيره أن اللم مصدر جعل نعتا للأكل، والمراد به الفاعل أي آكلا لاما أي جائعا كأنهم يستوعبونه بالأكل، قال الزجاج: كانوا يأكلون أموال اليتامى إسرافا وبدارا، فقال الله: * (وتأكلون التراث أكلا لما) * أي تراث اليتامى لما أي تلمون جميعه، وقال الحسن: أي يأكلون نصيبهم ونصيب صاحبهم، فيجمعون نصيب غيرهم إلى نصيبهم وثانيها: أن المال الذي يبقى من الميت بعضه حلال، وبعضه شبهة وبعضه حرام، فالوارث يلم الكل أي يضم البعض إلى البعض ويأخذ الكل ويأكله وثالثها: قال صاحب " الكشاف ": ويجوز أن يكون الذم متوجها إلى الوارث الذي ظفر بالمال سهلا مهلا من غير أن يعرق فيه جبينه فيسرف في إنفاقه ويأكله أكلا لما واسعا، جامعا بين ألوان المشتهيات من الأطعمة والأشربة والفواكه، كما يفعله الوراث البطالون.
أما قوله تعالى: * (ويحبون المال حبا جما) * فاعلم أن الجم هو الكثرة يقال: جم الشيء يجم جموما يقال ذلك في المال وغيره فهو شيء جم وجام وقال أبو عمرو جم يجم أي يكثر، والمعنى: ويحبون المال حبا كثيرا شديدا، فبين أن حرصهم على الدنيا فقط وأنهم عادلون عن أمر الآخرة.
قوله تعالى * (كلا إذا دكت الارض دكا دكا * وجآء ربك والملك صفا صفا *