لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه (37) وجوه يومئذ مسفرة (83) ضاحكة مستبشرة (39) (المسألة الأولى) يحتمل أن يكون المراد من الفرار ما يشعر به ظاهره وهو التباعد والاحتراز، والسبب في ذلك الفرار الاحتراز عن المطالبة بالتبعات، يقول الأخ ما واسيتني بمالك، والأبوان يقولان قصرت في برنا، والصاحبة تقول أطعمتني الحرام، وفعلت وصنعت، والبنون يقولون ما علمتنا وما أرشدتنا، وقيل أول من يفر من أخيه هابيل، ومن أبويه إبراهيم، ومن صاحبته نوح ولوط، ومن ابنه نوح، ويحتمل أن يكون المراد من الفرار ليس هو التباعد، بل المغني أنه يوم يفر المرء من موالاة أخيه لاهتمامه بشأنه، وهو كقوله تعالى (إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا) وأما الفرار من نصرته، وهو كقوله تعالى (يوم لا يغنى مولى عن مولى شيئا) وأما ترك السؤال وهو كقوله تعالى (ولا يسأل حميم حميما).
(المسألة الثانية) المراد أن الذين كان المرء في دار الدنيا يفر إليهم ويستجير بهم، فإنه يفر منهم في دار الآخرة، ذكروا في فائدة الترتيب كأنه قيل (يوم يفر المرء من أخيه) بل من أبويه فإنهما أقرب من الأخوين بل من الصاحبة والولد، لان تعلق القلب بهما أشد من تعلقه بالأبوين.
ثم إنه تعالى لما ذكر هذا الفرار أتبعه بذكر سببه فقال تعالى (لكل امرئ منهم يؤمئذ شأن يغنيه) وفى قوله (يغنيه) وجهان (الأول) قال ابن قتيبة يغنيه أي يصرفه ويصده عن قرابته وأنشد:
سيغنيك حرب بنى مالك... عن الفحش والجهل في المحفل أي سيشغلك، ويقال أغن وجهك أي اصرفه (الثاني) قال أهل المعاني يغنيه أي ذلك الهم الذي بسبب خاصة نفسه قد ملا صدره، فلم يبق فيه متسع لهم آخر، فصارت شبيها بالغنى في أنه حصل عنده من ذلك المملوك شئ كثير.
واعلم أنه تعالى لما ذكر حال يوم القيامة في الهول، بين أن المكلفين فيه على قسمين منهم السعداء، ومنهم الأشقياء فوصف السعداء بقوله تعالى (وجوه يومئذ مسفرة، ضاحكة مستبشرة) مسفرة مضيئة متهلله، من أسفر الصبح إذا أضاء، وعن ابن عباس من قيام الليل لما روى من كثرت صلاته بالليل، حسن وجهه بالنهار، وعن الضحاك، من آثار الوضوء، وقيل من طول ما اغبرت في سبيل الله، وعندي أنه بسبب الخلاص من علائق الدنيا والاتصال بعال القدس ومنازل الرضوان والرحمة ضاحكة، قال الكلبي يعنى بالفراغ من الحساب مستبشرة فرحة بما نالت من كرامة الله ورضاه واعلم أن قوله مسفرة إشارة إلى الخلاص عن هذا العالم وتبعاته