لكل واحد من تلك الأعمال أثر في حصول تلك الهيئة النفسانية، إذا عرفت هذا فنقول: إن الإنسان إذا واظب على الإتيان ببعض أنواع الذنوب، حصلت في قلبه ملكة نفسانية على الإتيان بذلك الذنب، ولا معنى للذنب إلا ما يشغلك بغير الله، وكل ما يشغلك بغير الله فهو ظلمة، فإذن الذنوب كلها ظلمات وسواد، ولكل واحد من الأعمال السالفة التي أورث مجموعها حصول تلك الملكة أثر في حصولها، فذلك هو المراد من قولهم: كلما أذنب الإنسان حصلت في قلبه نكتة سوداء حتى يسود القلب، ولما كانت مراتب الملكات في الشدة والضعف مختلفة، لا جرم كانت مراتب هذا السواد والظلمة مختلفة، فبعضها يكون رينا وبعضها طبعا وبعضها أقفالا، قال القاضي ليس المراد من الرين أن قلبهم قد تغير وحصل فيه منع، بل المراد أنهم صاروا لإيقاع الذنب حالا بعد حال متجرئين عليه وقويت دواعيهم إلى ترك التوبة وترك الإقلاع، فاستمروا وصعب الأمر عليهم، ولذلك بين أن علة الرين كسبهم، ومعلوم إن إكثارهم من اكتساب الذنوب لا يمنع من الإقلاع والتوبة، وأقول قد بينا أن صدور الفعل حال استواء الداعي إلى الفعل، والداعي إلى الترك محال لامتناع ترجيح الممكن من غير مرجح، فبأن يكون ممتنعا حال المرجوحية كان أولى، ولما سلم القاضي أنهم صاروا بسبب الأفعال السالفة راجحا، فوجب أن يكون الإقلاع في هذه الحالة ممتنعا، وتمام الكلام قد تقدم مرارا في هذا الكتاب.
أما قوله تعالى: * (كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون) * فاعلم أنهم ذكروا في * (كلا) * وجوها أحدها: قال صاحب " الكشاف ": * (كلا) * ردع عن الكسب الرائن عن قلوبهم وثانيها: قال القفال: إن الله تعالى حكى في سائر السور عن هذا المعتدي الأثيم أنه كان يقول إن كانت الآخرة حقا، فإن الله تعالى يعطيه مالا وولدا، ثم إنه تعالى كذبه في هذه المقالة فقال: * (أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا) * (مريم: 78) قال: * (وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى) * (فصلت: 50) ولما كان هذا مما قد تردد ذكره في القرآن ترك الله ذكره ههنا وقال: * (كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون) * أي ليس الأمر كما يقولون: من أن لهم في الآخرة حسنى بل هم عن ربهم يومئذ لمحجوبون وثانيها: أن يكون ذلك تكريرا وتكون * (كلا) * هذه هي المذكورة في قوله: * (كلا بل ران) * أما قوله: * (إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون) * فقد احتج الأصحاب على أن المؤمنين يرونه سبحانه قالوا: ولولا ذلك لم يكن للتخصيص فائدة، وفيه تقرير آخر وهو أنه تعالى ذكر هذا الحجاب في معرض الوعيد والتهديد للكفار، وما يكون وعيدا وتهديدا للكفار لا يجوز حصوله في حق المؤمن، فوجب أن لا يحصل هذا الحجاب في حق المؤمن أجابت المعتزلة عن هذا من وجوه أحدها: قال الجبائي: المراد أنهم عن رحمة ربهم محجوبون أي ممنوعون، كما يقال في الفرائض: الإخوة يحجبون الأم على الثلث، ومن ذلك يقال: لمن يمنع عن الدخول هو حاجب، لأنه يمنع من رؤيته وثانيها: قال أبو مسلم: * (لمحجوبون) * أي غير