ولذلك قال تعالى: * (إنما يخشى الله من عباده العلماء) * (فاطر: 28) فكأنه تعالى لما قال: * (فذكر إن نفعت الذكرى) * بين في هذه الآية أن الذي تنفعه الذكرى من هو، ولما كان الانتفاع بالذكرى مبنيا على حصول الخشية في القلب، وصفات القلوب مما لا اطلاع لأحد عليها إلا الله سبحانه وجب على الرسول تعميم الدعوة تحصيلا للمقصود، فإن المقصود تذكير من ينتفع بالتذكير، ولا سبيل إليه إلا بتعميم التذكير. الثاني: أن يقال: إن الخشية حاصلة للعاملين وللمتوقفين غير المعاندين وأكثر الخلق متوقفون غير معاندين والمعاند فيهم قليل، فإذا ضم إلى المتوقفين الذين لهم الغلبة العارفون كانت الغلبة العظيمة لغير المعاندين، ثم إن كثيرا من المعاندين، إنما يعاندون باللسان، فأما المعاند في قلبه بينه وبين نفسه فذلك مما لا يكون أو إن كان فهو في غاية الندرة والقلة، ثم إن الإنسان إذا سمع التخويف بأنه * (يصلى النار الكبرى) * (الأعلى: 12) وأنه * (لا يموت فيها ولا يحيي) * (الأعلى: 13) انكسر قلبه فلا بد وأن يستمع وينتفع أغلب الخلق في أغلب الأحوال، وأما ذلك المعرض فنادر، وترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير، فمن هذا الوجه كان قوله: * (فذكر إن نفعت الذكرى) * يوجب تعميم التذكير.
المسألة الثالثة: السين في قوله: * (سيذكر) * يحتمل أن تكون بمعنى سوف يذكر وسوف من الله واجب كقوله: * (سنقرؤك فلا تنسى) * (الأعلى: 6) ويحتمل أن يكون المعنى أن من خشي الله فإنه يتذكر وإن كان بعد حين بما يستعمله من التدبر والنظر فهو بعد طول المدة يذكر، والله أعلم.
المسألة الرابعة: العلم إنما يسمى تذكرا إذا كان قد حصل العلم أولا ثم نسيه وهذه الحالة غير حاصلة للكفار فكيف سمى الله تعالى ذلك بالتذكر؟ وجوابه: أن لقوة الدلائل وظهورها كأن ذلك العلم كان حاصلا، ثم إنه زال بسبب التقليد والعناد. فلهذا أسماه الله تعالى بالتذكر.
المسألة الخامسة: قيل: نزلت هذه الآية في عثمان بن عفان، وقيل: نزلت في ابن أم مكتوم. أما قوله تعالى:
* (ويتجنبها الاشقى * الذى يصلى النار الكبرى) *.
فاعلم أنا بينا أن أقسام الخلق ثلاثة العارفون والمتوقفون والمعاندون، وبينا أن القسمين الأولين، لا بد وأن يكون لهما خوف وخشية، وصاحب الخشية لا بد وأن يستمع إلى الدعوة وينتفع بها، فيكون الأشقى هو المعاند الذي لا يستمع إلى الدعوة ولا ينتفع بها، فلهذا قال تعالى: * (ويتجنبها الأشقى * الذي يصلى النار الكبرى) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: ذكروا في تفسير النار * (الكبرى) * وجوها أحدها: قال الحسن: الكبرى نار جهنم، والصغرى نار الدنيا وثانيها: أن في الآخرة نيرانا ودركات متفاضلة كما أن في الدنيا ذنوبا ومعاصي متفاضلة، وكما أن الكافر أشقى العصاة كذلك يصلى أعظم النيران وثالثها: