البشرية متصلة بأول درجات الملكية، فلما انتهت الأرواح البشرية إلى أقصى غاياتها وهي مرتبة السبق اتصلت بعالم الملائكة وهو المراد من قوله: * (فالمدبرات أمرا) * فالأربعة الأول هي المراد من قوله: * (يكاد زيتها يضيء) * (النور: 35) والخامسة: هي النار في قوله: * (ولو لم تمسسه نار) * (النور: 35).
واعلم أن الوجوه المنقولة عن المفسرين غير منقولة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نصا، حتى لا يمكن الزيادة عليها، بل إنما ذكروها لكون اللفظ محتملا لها، فإذا كان احتمال اللفظ لما ذكرناه ليس دون احتماله للوجوه التي ذكروها لم يكن ما ذكروه أولى مما ذكرناه إلا أنه لا بد ههنا من دقيقة، وهو أن اللفظ محتمل للكل، فإن وجدنا بين هذه المعاني مفهوما واحدا مشتركا حملنا اللفظ على ذلك المشترك: وحينئذ يندرج تحته جميع هذه الوجوه. أما إذا لم يكن بين هذه المفهومات قدر مشترك تعذر حمل اللفظ على الكل، لأن اللفظ المشترك لا يجوز استعماله لإفادة مفهومية معا، فحينئذ لا نقول مراد الله تعالى هذا، بل نقول: يحتمل أن يكون هذا هو المراد، أما الجزم فلا سبيل إليه ههنا.
الاحتمال الثاني: وهو أن تكون الألفاظ الخمسة صفات لشيء واحد، بل لأشياء مختلفة، ففيه أيضا وجوه الأول: النازعات غرقا، هي: القسي، والناشطات نشطا هي الأوهاق، والسابحات السفن، والسابقات الخيل، والمدبرات الملائكة، رواه واصل بن السائب: عن عطاء الثاني: نقل عن مجاهد: في النازعات، والناشطات، والسابحات أنها الموت، وفي السابقات، والمدبرات أنها الملائكة، وإضافة النزع، والنشط، والسبح إلى الموت مجاز بمعنى أنها حصلت عند حصوله الثالث: قال قتادة: الجميع هي النجوم إلا المدبرات، فإنها هي الملائكة.
المسألة الثانية: ذكر فالسابقات بالفاء، والتي قبلها بالواو، وفي علته وجهان الأول: قال صاحب " الكشاف ": إن هذه مسيبة عن التي قبلها، كأنه قيل: واللاتي سبحن، فسبقن كما تقول: قام فذهب أوجب الفاء أن القيام كان سببا للذهاب، ولو قلت: قام وذهب لم تجعل القيام سببا للذهاب، قال الواحدي: قول صاحب " النظم " غير مطرد في قوله: * (فالمدبرات أمرا) * لأنه يبعد أن يجعل السبق سببا للتدبير، وأقول: يمكن الجواب عن اعتراض الواحدي رحمه الله من وجهين: الأول: لا يبعد أن يقال: إنها لما أمرت سبحت فسبقت فدبرت ما أمرت بتدبيرها وإصلاحها، فتكون هذه أفعالا يتصل بعضها ببعض، كقولك قام زيد، فذهب، فضرب عمرا، الثاني: لا يبعد أن يقال: إنهم لما كانوا سابقين في أداء الطاعات متسارعين إليها ظهرت أمانتهم، فلهذا السبب فوض الله إليهم تدبير بعض العالم الوجه الثاني: أن الملائكة قسمان، الرؤساء والتلامذة، والدليل عليه أنه سبحانه وتعالى قال: * (قل يتوفاكم ملك الموت) * (السجدة: 11) ثم قال: * (حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا) * (الأنعام: 61) فقلنا في التوفيق بين الآيتين: أن ملك الموت هو الرأس، والرئيس وسائر الملائكة هم التلامذة، إذا عرفت هذا فتقول: النازعات، والناشطات