المسألة الثانية: الفقهاء احتجوا بهذه الآية على وجوب تكبيرة الافتتاح، واحتج أبو حنيفة رحمه الله بها على أن تكبيرة الافتتاح ليست من الصلاة، قال: لأن الصلاة معطوفة عليها والعطف يستدعي المغايرة، واحتج أيضا بهذه الآية على أن الافتتاح جائز بكل اسم من أسمائه وأجاب أصحابنا بأن تقدير الآية، وصلى فذكر اسم ربه ولا فرق بين أن تقول أكرمتني فزرتني وبين أن تقول زرتني فأكرمتني، ولأبي حنيفة أن يقول: ترك العمل بفاء التعقيب لا يجوز من غير دليل والأولى في الجواب أن يقال: الآية تدل على مدح كل من ذكر اسم الله فصلى عقيبه وليس في الآية بيان أن ذلك الذكر هو تكبيرة الافتتاح. فلعل المراد به أن من ذكر الله بقلبه وذكر ثوابه وعقابه دعاه ذلك إلى فعل الصلاة، فحينئذ يأتي بالصلاة التي أحد أجزائها التكبير، وحينئذ يندفع الاستدلال. ثم قال تعالى:
* (بل تؤثرون الحيوة الدنيا) *.
وفيه قراءتان: قراءة العامة بالتاء ويؤكده حرف أبي، أي بل أنتم تؤثرون عمل الدنيا على عمل الآخرة. قال ابن مسعود: إن الدنيا أحضرت، وعجل لنا طعامها وشرابها ونساؤها ولذاتها وبهجتها، وإن الآخرة لغيب لنا وزويت عنا، فأخذنا بالعاجل وتركنا الآجل. وقرأ أبو عمرو: يؤثرون بالياء يعني الأشقى. ثم قال تعالى:
* (والاخرة خير وأبقى) *.
وتمامه أن كل ما كان خيرا وأبقى فهو آثر، فيلزم أن تكون الآخرة آثر من الدنيا وهم كانوا يؤثرون الدنيا، وإنما قلنا: إن الآخرة خير لوجوه أحدها: أن الآخرة مشتملة على السعادة الجسمانية والروحانية، والدنيا ليست كذلك، فالآخرة خير من الدنيا وثانيها: أن الدنيا لذاتها مخلوطة بالآلام، والآخرة ليست كذلك وثالثها: أن الدنيا فانية، والآخرة باقية، والباقي خير من الفاني. ثم قال:
* (إن هذا لفى الصحف الاولى) *.
واختلفوا في المشار إليه بلفظ هذا منهم من قال: جميع السورة، وذلك لأن السورة مشتملة على التوحيد والنبوة والوعيد على الكفر بالله، والوعد على طاعة الله تعالى.
ومنهم من قال: بل المشار إليه بهذه الإشارة هو من قوله: * (قد أفلح من تزكى) * (الأعلى: 14) إشارة إلى تطهير النفس عن كل ما لا ينبغي. أما القوة النظرية فعن جميع العقائد الفاسدة، وأما في القوة العملية فعن جميع الأخلاق الذمية.
وأما قوله: * (وذكر اسم ربه) * (الأعلى: 15) فهو إشارة إلى تكميل الروح بمعرفة الله تعالى، وأما قوله: * (فصلى) * (الأعلى: 15) فهو إشارة إلى تكميل الجوارح وتزيينها بطاعة الله تعالى.