كالقوة السامعة والباصرة والمخيلة والمفكرة والمذكورة، على ما يشهد به علم النفس فإن قيل: لم نكرت النفس؟ قلنا: فيه وجهان أحدهما: أن يريد به نفسا خاصة من بين النفوس، وهي النفس القدسية النبوية، وذلك لأن كل كثرة، فلا بد فيها من واحد يكون هو الرئيس، فالمركبات جنس تحته أنواع ورئيسها الحيوان، والحيوان جنس تحته أنواع ورئيسها الإنسان، والإنسان أنواع وأصناف ورئيسها النبي. والأنبياء كانوا كثيرين، فلا بد وأن يكون هناك واحد يكون هو الرئيس المطلق، فقوله: * (ونفس) * إشارة إلى تلك النفس التي هي رئيسة لعالم المركبات رياسة بالذات الثاني: أن يريد كل نفس، ويكون المراد من التنكير التكثير على الوجه المذكور في قوله: * (علمت نفس ما أحضرت) * وذلك لأن الحيوان أنواع لا يحصى عددها إلا الله على ما قال بعد ذكر بعض الحيوانات: * (ويخلق مالا تعلمون) * ولكل نوع نفس مخصوصة متميزة عن سائرها بالفضل المقوم لماهيته، والخواص اللازمة لذلك الفصل، فمن الذي يحيط عقله بالقليل من خواص نفس البق والبعوض، فضلا عن التوغل في بحار أسرار الله سبحانه. أما قوله تعالى:
* (فألهمها فجورها وتقواها) *.
فالمعنى المحصل فيه وجهان الأول: أن إلهام الفجور والتقوى، إفهامها وإعقالهما، وأن أحدهما حسن والآخر قبيح وتمكينه من اختيار ما شاء منهما، وهو كقوله: * (وهديناه النجدين) * (البلد: 10) وهذا تأويل مطابق لمذاهب المعتزلة، قالوا: ويدل عليه قوله بعد ذلك: * (قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها) * (الشمس: 10, 9) وهذا الوجه مروي عن ابن عباس وعن جمع من أكابر المفسرين والوجه الثاني: أنه تعالى ألهم المؤمن المتقي تقواه وألهم الكافر فجوره، قال سعيد بن جبير: ألزمها فجورها وتقواها، وقال ابن زيد: جعل فيها ذلك بتوفيقه إياها للتقوى وخذلانه إياها بالفجور، واختار الزجاج والواحدي ذلك، قال الواحدي: التعليم والتعريف والتبيين، غير والإلهام غير، فإن الإلهام هو أن يوقع الله في قلب العبد شيئا، وإذا أوقع في قلبه شيئا فقد ألزمه إياه. وأصل معنى الإلهام من قولهم: لهم الشيء، والتهمه إذا ابتلعه، وألهمته ذلك الشيء أي أبلغته، وهذا هو الأصل ثم استعمل ذلك فيما يقذفه الله تعالى في قلب العبد، لأنه كالإبلاغ، فالتفسير الموافق لهذا الأصل قول ابن زيد، وهو صريح في أن الله تعالى خلق في المؤمن تقواه، وفي الكافر فجوره، وأما التمسك بقوله: * (قد أفلح من زكاها) * فضعيف لأن المروي عن سعيد بن جبير وعطاء وعكرمة ومقاتل والكلبي أن المعنى قد أفلحت وسعدت نفس زكاها الله تعالى وأصلحها وطهرها، والمعنى وفقها للطاعة، هذا آخر كلام الواحدي وهو تام. وأقول قد ذكرنا أن الآيات الثلاثة ذكرت للدلالة على كونه سبحانه مدبرا للأجسام العلوية والسفلية البسيطة والمركبة، فههنا لم يبق شيء مما في عالم المحسوسات إلا وقد ثبت بمقتضى ذلك التنبيه أنه واقع بتخليقه وتدبيره، بقي شيء