المسألة الثانية: أراد بمرعاها ما يأكل الناس والأنعام، ونظيره قوله في النحل: * (أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون) * (النحل: 10) وقال في سورة أخرى: * (أنا صببنا الماء صبا * ثم شققنا الأرض شقا) * إلى قوله: * (متاعا لكم ولأنعامكم) * (عبس: 32, 25) فكذا في هذه الآية واستعير الرعي للإنسان كما استعير الرتع في قوله: * (يرتع ويلعب) * (يوسف: 12) وقرئ نرتع من الرعي، ثم قال ابن قتيبة قال تعالى: * (وجعلنا من الماء كل شيء حي) * (الأنبياء: 30) فانظر كيف دل بقوله: * (ماءها ومرعاها) * على جميع ما أخرجه من الأرض قوتا ومتاعا للأنام من العشب والشجر، والحب والثمر والعصف والحطب، واللباس والدواء حتى النار والملح، أما النار فلا شك أنها من العيدان قال تعالى: * (أفرأيتم النار التي تورون * أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون) * (الواقعة: 72, 71) وأما الملح فلا شك أنه متولد من الماء، وأنت إذا تأملت علمت أن جميع ما يتنزه به الناس في الدنيا ويتلذذون به، فأصله الماء والنبات، ولهذا السبب تردد في وصف الجنة ذكرهما، فقال: * (جنات تجري من تحتها الأنهار) * (البقرة: 25) ثم الذي يدل على أنه تعالى أراد بالمرعى كل ما يأكله الناس والأنعام قوله في آخر هذه الآية: * (متاعا لكم ولأنعامكم) * (النازعات: 33).
* (والجبال أرساها * متاعا لكم ولانعامكم) *.
الصفة الثالثة: قوله تعالى: * (والجبال أرساها) * والكلام في شرح منافع الجبال قد تقدم.
ثم إنه تعالى لما بين كيفية خلقه الأرض وكمية منافعها قال: * (متاعا لكم ولأنعامكم) * والمعنى أنا إنما خلقنا هذه الأشياء متعة ومنفعة لكم ولأنعامكم، واحتج به من قال: إن أفعال الله وأحكامه معللة بالأغراض والمصالح، والكلام فيه قد مر غير مرة، واعلم أنا بينا أنه تعالى إنما ذكر كيفية خلقة السماء والأرض ليستدل بها على كونه قادرا على الحشر والنشر، فلما قرر ذلك وبين إمكان الحشر عقلا أخبر بعد ذلك عن وقوعه.
* (فإذا جآءت الطآمة الكبرى) *.
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: الطامة عند العرب الداهية التي لا تستطاع وفي اشتقاقها وجوه، قال المبرد: أخذت فيما أحسب من قولهم: طم الفرس طميما، إذا استفرغ جهده في الجري، وطم الماء إذا ملأ النهر كله، وقال الليث: الطم طم البئر بالتراب، وهو الكبس، ويقال: طم السيل الركية إذا دفنها حتى يسويها، ويقال للشيء الذي يكبر حتى يعلو قد طم، والطامة الحادثة التي تطم على ما سواها ومن ثم قيل: فوق كل طامة طامة، قال القفال: أصل الطم الدفن والعلو، وكل ما غلب شيئا وقهره وأخفاه فقد طمه، ومنه الماء الطامي وهو الكثير الزائد، والطاغي والعاتي والعادي سواء وهو الخارج عن أمر الله تعالى المتكبر، فالطامة اسم لكل داهية عظيمة ينسى ما قبلها في جنبها.