المسألة الثانية: الجمهور على أن التكرير في قوله: * (وما أدراك ما يوم الدين * ثم ما أدراك ما يوم الدين) * لتعظيم ذلك اليوم، وقال الجبائي: بل هو لفائدة مجددة، إذ المراد بالأول أهل النار، والمراد بالثاني أهل الجنة، كأنه قال: وما أدراك ما يعامل به الفجار في يوم الدين؟ ثم ما أدراك ما يعامل به الأبرار في يوم الدين؟ وكرر يوم الدين تعظيما لما يفعله تعالى من الأمرين بهذين الفريقين.
المسألة الثالثة: في: * (يوم لا تملك) * قراءتان الرفع والنصب، أما الرفع ففيه وجهان أحدهما: على البدل من يوم الدين والثاني: أن يكون بإضمار هو فيكون المعنى هو يوم لا تملك، وأما النصب ففيه وجوه أحدها: بإضمار يدانون لأن الدين يدل عليه وثانيها: بإضمار اذكروا وثالثها: ما ذكره الزجاج يجوز أن يكون في موضع رفع إلا أنه يبنى على الفتح لإضافته إلى قوله: * (لا تملك) * وما أضيف إلى غير المتمكن قد يبنى على الفتح، وإن كان في موضع رفع أو جر كما قال:
لم يمنع الشرب منهم غير أن نطقت * حمامة في غصون ذات أو قال فبنى غير على الفتح لما أضيف إلى قوله إن نطقت، قال الواحدي: والذي ذكره الزجاج من البناء على الفتح إنما يجوز عند الخليل وسيبويه، إذا كانت الإضافة إلى الفعل الماضي، نحو قولك على حين عاتبت، أما مع الفعل المستقبل، فلا يجوز البناء عندهم، ويجوز ذلك في قول الكوفيين، وقد ذكرنا هذه المسألة عند قوله: * (هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم) * (المائدة: 119) ورابعها: ما ذكره أبو علي وهو أن اليوم لما جرا في أكثر الأمر ظرفا ترك على حالة الأكثرية، والدليل عليه إجماع القراء والعرب في قوله: * (منهم الصالحون ومنهم دون ذلك) * (الأعراف: 168) ولا يرفع ذلك أحد. ومما يقوي النصب قوله: * (وما أدراك ما القارعة * يوم يكون الناس) * (القارعة: 4, 3) وقوله: * (يسألون أيان يوم الدين، يوم هم على النار يفتنون) * (الذاريات: 13, 12) فالنصب في * (يوم لا تملك) * مثل هذا.
المسألة الرابعة: تمسكوا في نفي الشفاعة للعصاة بقوله: * (يوم لا تملك نفس لنفس شيئا) * وهو كقوله تعالى: * (واتقوا يوما لا تجزى نفس عن نفس شيئا) * (البقرة: 48) والجواب: عنه قد تقدم في سورة البقرة.
المسألة الخامسة: أن أهل الدنيا كانوا يتغلبون على الملك ويعين بعضهم بعضا في أمور، ويحمي بعضهم بعضا، فإذا كان يوم القيامة بطل ملك بنى الدنيا وزالت رياستهم، فلا يحمي أحد أحدا، ولا يغني أحد عن أحد، ولا يتغلب أحد على ملك، ونظيره قوله: * (والأمر يومئذ لله) * وقوله: * (مالك يوم الدين) * (الفاتحة: 4) وهو وعيد عظيم من حيث إنه عرفهم أنه لا يغني عنهم إلا البر والطاعة يومئذ دون سائر ما كان قد يغني عنهم في الدنيا من مال وولد وأعوان وشفعاء. قال الواحدي: والمعنى أن الله تعالى لم يملك في ذلك اليوم أحدا شيئا من الأمور، كما ملكهم في دار الدنيا. قال الواسطي: في قوله: * (يوم لا تملك نفس لنفس شيئا) * إشارة إلى فناء غير الله تعالى، وهناك تذهب الرسالات والكلمات والغايات، فمن كانت صفته في الدنيا كذلك كانت دنياه أخراه.
وأما قوله: * (والأمر يومئذ لله) * فهو إشارة إلى أن البقاء والوجود لله، والأمر كذلك في الأزل وفي اليوم وفي الآخرة، ولم يتغير من حال إلى حال، فالتفاوت عائد إلى أحوال الناظر، لا إلى أحوال المنظور إليه، فالكاملون لا تتفاوت أحوالهم بحسب تفاوت الأوقات، كما قال: لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا، وكحارثة لما أخبر بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " كأني أنظر وكأني وكأني " والله سبحانه وتعالى أعلم، والحمد لله رب العالمين.