إن أصحابنا أكدوا ظاهر هذه الآية بما روى عن علي عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما من نفس منفوسة إلا وقد علم الله مكانها من الجنة والنار، قلنا: أفلا نتكل؟ قال: لا اعملوا فكل ميسر لما خلق له " أجاب القفال عنه بأن الناس كلهم خلقوا ليعبدوا الله، كما قال: * (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) * (الذاريات: 56) واعلم أن هذا ضعيف لأنه عليه السلام إنما ذكر هذا جوابا عن سؤالهم، يعني اعملوا فكل ميسر لما وافق معلوم الله، وهذا يدل على قولنا: أن ما قدره الله على العبد وعلمه منه فإنه ممتنع التغيير والله أعلم.
المسألة الخامسة: في دخول السين في قوله: * (فسنيسره) * وجوه أحدها: أنه على سبيل الترفيق والتلطيف وهو من الله تعالى قطع ويقين، كما في قوله: * (اعبدوا ربكم) * * (لعلكم تتقون) * (البقرة: 21) وثانيها: أن يحمل ذلك على أن المطيع قد يصير عاصيا، والعاصي قد يصير بالتوبة مطيعا، فهذا السبب كان التغيير فيه محالا وثالثها: أن الثواب لما كان أكثره واقعا في الآخرة، وكان ذلك مما لم يأت وقته، ولا يقف أحد على وقته إلا الله، لا جرم دخله تراخ، فأدخلت السين لأنها حرف التراخي ليدل بذلك على أن الوعد آجل غير حاضر، والله أعلم.
أما قوله تعالى: * (وما يغنى عنه ماله إذا تردى) *.
فاعلم أن ما هنا يحتمل أن يكون استفهاما بمعنى الإنكار، ويحتمل أن يكون نفيا. وأما * (تردى) * ففيه وجهان الأول: أن يكون ذلك مأخوذا من قولك: تردى من الجبل: قال الله تعالى: * (والمتردية والنطيحة) * (المائدة: 3) فيكون المعنى: تردى في الحفرة إذا قبر، أو تردى في قعر جهنم، وتقدير الآية: إنا إذا يسرناه للعسرى، وهي النار تردى في جهنم، فماذا يغني عنه ماله الذي بخل به وتركه لوارثه، ولم يصحبه منه إلى آخرته، التي هي موضع فقره وحاجته شيء، كما قال: * (ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم) * (الأنعام: 94) وقال: * (ونرثه ما يقول ويأتينا فردا) * (مريم: 80) أخبر أن الذي ينتفع الإنسان به هو ما يقدمه الإنسان من أعمال البر وإعطاء الأموال في حقوقها، دون المال الذي يخلفه على ورثته الثاني: أن تردى تفعل من الردى وهو الهلاك يريد الموت.
أما قوله تعالى: * (إن علينا للهدى) *.
فاعلم أنه تعالى لما عرفهم أن سعيهم شتى في العواقب وبين ما للمحسن من اليسرى وللمسئ من العسرى، أخبرهم أنه قد قضى ما عليه من البيان والدلالة والترغيب والترهيب والإرشاد والهداية فقال: * (إن علينا للهدى) * أي إن الذي يجب علينا في الحكمة إذا خلقنا الخلق للعبادة أن نبين لهم وجوه التعبد وشرح ما يكون المتعبد به مطيعا مما يكون به عاصيا، إذ كنا إنما خلقناهم لننفعهم ونرحمهم ونعرضهم للنعيم المقيم، فقد فعلنا ما كان فعله واجبا علينا في الحكمة، والمعتزلة احتجوا بهذه الآية على صحة مذهبهم في مسائل إحداها: