وإذا البحار سجرت أنه تعالى إذا كان (يوم القيامة) يحشر كل الحيوانات إظهار للعدل، فكيف يجوز مع هذا أن لا يحشر المكلفين من الإنس والجن؟ (الثاني) أنه تجتمع في موقف القيامة مع شدة نفرتها عن الناس في الدنيا وتبددها في الصحارى، فدل هذا على أن اجتماعها إلى الناس ليس إلا من هول ذلك اليوم (والثالث) أن هذه الحيوانات بعضها غذاء للبغض، ثم إنها في ذلك اليوم تجتمع ولا يتعرض بعضها لبعض، وما ذاك إلا لشدة هول ذلك اليوم، وفى الآية (قول آخر) لابن عباس وهو أن حشر الوحوش عبارة عن موتها، يقال - إذا أجحفت السنة بالناس وأموالهم _ حشرتهم السنة، وقرئ حشرت بالتشديد.
(السادس) قوله تعالى (وإذا البحار سجرت) قرىء بالتخفيف والتشديد، وفيه وجوه:
(أحدها) أن أصل الكلمة من سجرت التنور إذا أو قدتها، والشئ إذا وقد فيه نشف ما فيه من الرطوبة، فحينئذ لا يبقى في البحار شئ من المياه البتة، ثم إن الجبال قد سيرت على ما قال (وسيرت الجبال) وحينئذ تصير البحار والأرض شيئا واحدا في غاية الحرارة والاحراق، ويحتمل أن تكون الأرض لما نشفت مياه البحار ربت فارتفعت فاستوت برؤوس الجبال، ويحتمل أن الجبال لما اندكت وتفرقت أجزاؤها وصارت كالتراب وقع ذلك التراب في أسفل الجبال، فصار وجه الأرض مستويا مع البحار، ويصير الكل بحرا مسجورا (وثانيها) أن يكون (سجرت) بمعنى (فجرت) وذلك لان بين البحار حاجزا على ما قال (مرج البحرين يلتقيان، بينهما برزخ لا يبغيان) فإذا رفع الله ذلك الحاجز فاض البعض في البعض، وصارت البحار بحرا واحدا، وهو قول الكلبي (وثالثها) (سجرت) أو قدت، قال القفال: وهذا التأويل يحتمل وجوها (الأول) أن تكون جهنم في قعور البحار، فهي الآن غير مسجورة لقيام الدنيا، فإذا انتهت مدة الدنيا أوصل الله تأثير تلك النيران إلى البحار، فصارت بالكلية مسجورة بسبب ذلك (والثاني) أن الله تعالى يلقى الشمس والقمر والكواكب في البحار، فتصير البحار مسجورة بسبب ذلك (والثالث) أن يخلق الله تعالى بالبحار نيرانا عظيمة حتى تتسخن تلك المياه، وأقول هذه الوجوه متكلفة لا حاجة إلى شئ منها، لان القادر على تخريب الدنيا وإقامة القيامة لابد وأن يكون قادرا على أن يفعل بالبحار ما شاء من تسخين، ومن قلب مياهها نيرانا من غير حاجة منه إلى أن يلقي فيها الشمس والقمر، أو يكون تحتها نار جهنم.
واعلم أن هذه العلامات الست يمكن وقوعها في أول زمان تخريب الدنيا، ويمكن وقوعها أيضا بعد قيام القيامة، وليس في اللفظ ما يدل على أحد الاحتمالين، أما الستة الباقية فإنها مختصة بالقيامة.