فصدقتها أو كذبتها * والمرء ينفعه كذابه وهو مثل قوله تعالى: * (أنبتكم من الأرض نباتا) * (نوح: 17) يعني وكذبوا بآياتنا فكذبوا كذابا وثانيها: أن ينصبه بكذبوا لأنه يتضمن معنى كذبوا لأن كل مكذب بالحق كاذب وثالثها: أن يجعل الكذاب بمعنى المكاذبة، فمعناه وكذبوا بآياتنا فكاذبوا مكاذبة. أو كذبوا بها مكاذبين. لأنهم إذا كانوا عند المسلمين كاذبين، وكان المسلمون عندهم كاذبين فبينهم مكاذبة وقرئ أيضا كذلك وهو جمع كاذب، أي كذبوا بآياتنا كاذبين، وقد يكون الكذاب بمعنى الواحد البليغ في الكذب، يقال رجل كذاب كقولك حسان وبخال، فيجعل صفة لمصدر كذبوا أي تكذيبا كذابا مفرطا كذبه.
قوله تعالى * (وكل شىء أحصيناه كتابا) *.
واعلم أنه تعالى لما بين أن فساد حالهم في القوة العملية وفي القوة النظرية بلغ إلى أقصى الغايات وأعظم النهايات بين أن تفاصيل تلك الأحوال في كميتها وكيفيتها معلومة له، وقدر له ما يستحق عليه من العقاب معلوم له، فقال: * (وكل شيء أحصيناه كتابا) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال الزجاج: * (كل) * منصوب بفعل مضمر يفسره * (أحصيناه) * والمعنى: وأحصينا كل شيء وقرأ أبو السمال، وكل بالرفع على الابتداء.
المسألة الثانية: قوله: * (وكل شيء أحصيناه) * أي علمنا كل شيء كما هو علما لا يزول ولا يتبدل، ونظيره قوله تعالى: * (أحصاه الله ونسوه) * (المجادلة: 6) واعلم أن هذه الآية تدل على كونه تعالى عالما بالجزئيات، واعلم أن مثل هذه الآية لا تقبل التأويل: وذلك لأنه تعالى ذكر هذا تقريرا لما ادعاه من قوله: * (جزاءا وفاقا) * (النبأ: 26) كأنه تعالى يقول: أنا عالم بجميع ما فعلوه، وعالم بجهات تلك الأفعال وأحوالها واعتباراتها التي لأجلها يحصل استحقاق الثواب والعقاب، فلا جرم لا أوصل إليهم من العذاب إلا قدر ما يكون وفاقا لأعمالهم، ومعلوم أن هذا القدر إنما يتم لو ثبت كونه تعالى عالما بالجزئيات، وإذا ثبت هذا ظهر أن كل من أنكره كان كافرا قطعا.
المسألة الثالثة: قوله: * (أحصيناه كتابا) * فيه وجهان: أحدهما: تقديره أحصيناه إحصاء، وإنما عدل عن تلك اللفظة إلى هذه اللفظة، لأن الكتابة هي النهاية في قوة العلم، ولهذا قال عليه السلام " قيدوا العلم بالكتابة " فكأنه تعالى قال: وكل شيء أحصيناه إحصاء مساويا في القوة والثبات والتأكيد للمكتوب، فالمراد من قوله كتابا تأكيد ذلك الإحصاء والعلم، واعلم أن هذا التأكيد إنما ورد على حسب ما يليق بأفهام أهل الظاهر، فإن المكتوب يقبل الزوال، وعلم الله بالأشياء لا يقبل الزوال لأنه واجب لذاته القول الثاني: أن يكون قوله كتابا حالا في معنى مكتوبا والمعنى وكل شيء أحصيناه حال كونه مكتوبا في اللوح المحفوظ، كقوله: * (وكل شيء أحصيناه في إمام مبين) * أو في صحف الحفظة.