الفرق الذي ذكره القاضي فبعيد، لأنه إذا عزم على أن يتوب عنه في الحال علم أنه لا يضره ذلك الذنب البتة. ثم نقول مذهبنا أنا نقطع بحصول العفو عن الكبائر في الجملة، فأما في حق كل واحد من الناس فذلك مشكوك فيه لأنه تعالى قال: * (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) * فقطع بحصول المغفرة في الجملة، إلا أنه سبحانه وتعالى لم يقطع بحصول هذا الغفران في حق كل أحد بل في حق من شاء وإذا كان كذلك كان الخوف حاصلا فلا يكون الإغراء حاصلا والله أعلم.
المسألة الثالثة: قال صاحب الكشاف " قرئ الدين بالرفع، ثم قال: وحق من رفعه أن يقرأ مخلصا بفتح اللام لقوله تعالى: * (وأخلصوا دينهم لله) * (النساء: 146) حتى يطابق قوله: * (ألا لله الدين الخالص) * والخالص واحد إلا أنه وصف الدين بصفة صاحبه على الإسناد المجازي كقولهم شعر شاعر، واعلم أنه تعالى لما بين أن رأس العبادات ورئيسها الإخلاص في التوحيد أردفه بذم طريقة المشركين فقال: * (والدين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) * وتقدير الكلام والذين اتخذوا من دونه أولياء يقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، وعلى هذا التقدير فخبر الذين محذوف وهو قوله يقولون، واعلم أن الضمير في قوله: * (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) * عائد على الأشياء التي عبدت من دون الله، وهي قسمان العقلاء وغير العقلاء، أما العقلاء فهو أن قوما عبدوا المسيح وعزيزا والملائكة، وكثير من الناس يعبدون الشمس والقمر والنجوم ويعتقدون فيها أنها أحياء عاقلة ناطقة، وأما الأشياء التي عبدت مع أنها ليست موصوفة بالحياة والعقل فهي الأصنام، إذا عرفت هذا فنقول الكلام الذي ذكره الكفار لائق بالعقلاء، أما بغير العقلاء فلا يليق، وبيانه من وجهين الأول: أن الضمير في قوله: * (ما نعبدهم) * ضمير للعقلاء فلا يليق بالأصنام الثاني: أنه لا يبعد أن يعتقد أولئك الكفار أنها تقربه إلى الله، وعلى هذا التقدير فمرادهم أن عبادتهم لها تقربهم إلى الله، ويمكن أن يقال: إن العاقل لا يبعد الصنم من حيث إنه خشب أو حجر، وإنما يعبدونه لاعتقادهم أنها تماثيل الكواكب أو تماثيل الأرواح السماوية، أو تماثيل الأنبياء والصالحين الذين مضوا، ويكون مقصودهم من عبادتها توجيه تلك العبادات إلى تلك الأشياء التي جعلوا هذه التماثيل صورا لها.
وحاصل الكلام لعباد الأصنام أن قالوا: إن الإله الأعظم أجل من أن يعبده البشر اللائق بالبشر أن يشتغلوا بعبادة الأكابر من عباد الله مثل الكواكب ومثل الأرواح السماوية، ثم إنها تشتغل بعبادة الإله الأكبر، فهذا هو المراد من قولهم: * (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) *.
واعلم أن الله تعالى لما حكى مذاهبهم أجاب عنها من وجوه: الأول: أنه اقتصر في الجواب على مجرد التهديد فقال: * (إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون) * واعلم أن الرجل المبطل إذا ذكر مذهبا باطلا وكان مصرا عليه، فالطريق في علاجه أن يحتال بحيلة توجب زوال ذلك الإصرار عن