مع قوة أمره أبلغ والثاني: أنه كان ينصب الخشب في الهواء وكان يمد يدي المعذب ورجليه إلى تلك الخشب الأربع، ويضرب على كل واحد من هذه الأعضاء وتدا، ويتركه معلقا في الهواء إلى أن يموت والثالث: أنه كان يمد المعذب بين أربعة أوتاد في الأرض ويرسل عليه العقارب والحيات والرابع: قال قتادة كانت أوتادا وأرسانا وملاعب يلعب بها عنده والخامس: أن عساكره كانوا كثيرين، وكانوا كثيري الأهبة عظيمي النعم، وكانوا يكثرون من الأوتاد لأنهم يقرون أمره ويشدون مملكته كما يقوي الوتد البناء. وأما الأيكة فهي الغيضة المتلفة.
ثم قال تعالى: * (أولئك الأحزاب) * وفيه أقوال الأول: أن هؤلاء الذين ذكرناهم من الأمم هم الذين تحزبوا على أنبيائهم فأهلكناهم، فذلك نفعل بقومك، لأنه تعالى بين بقوله: (جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب) (ص: 11) أن قوم محمد صلى الله عليه وسلم جند من الأحزاب، أي من جنس الأحزاب المتقدمين، فلما ذكر أنه عامل الأحزاب المتقدمين بالإهلاك كان ذلك تخويفا شديدا لقوم محمد صلى الله عليه وسلم الثاني: أن معنى قوله: * (أولئك الأحزاب) * مبالغة لوصفهم بالقوة والكثرة، كما يقال فلان هو الرجل، والمعنى أن حال أولئك الأحزاب مع كمال قوتهم لما كان هو الهلاك والبوار، فكيف حال هؤلاء الضعفاء المساكين.
واعلم أن هؤلاء الأقوام إن صدقوا بهذه الأخبار فهو تحذير، وإن لم يصدقوا بها فهو تحذير أيضا، لأن آثار هذه الوقائع باقية وهو يفيد الظن القوي فيحذرون، ولأن ذكر ذلك على سبيل التكرير يوجب الحذر أيضا ثم قال: * (إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب) * أي كل هذه الطوائف لما كذبوا أنبياءهم في الترغيب والترهيب، لا جرم نزل العقاب عليهم وإن كان ذلك بعد حين، والمقصود منه زجر السامعين، ثم بين تعالى أن هؤلاء المكذبين وإن تأخر هلاكهم فكأنه واقع بهم فقال: * (وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق) * وفي تفسير هذه الصيحة قولان الأول: أن يكون المراد عذابا يفجؤهم ويجيئهم دفعة واحدة، كما يقال صاح الزمان بهم إذا هلكوا قال الشاعر: صاح الزمان بآل برمك صيحة خروا لشدتها على الأذقان ويشبه أن يكون أصل ذلك من الغارة إذا عافصت القوم فوقعت الصحية فيهم، ونظيره قوله تعالى: * (فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذي خلوا من قبلهم) * (يونس: 102) الآية والقول الثاني: أن هذه الصيحة هي صيحة النفخة الأولى في الصور، كما قال تعالى في سورة يس: * (ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون) * (يس: 49) والمعنى أنهم وإن لم يذوقوا عذابي في الدنيا فهو معد لهم يوم القيامة، فكأنهم بذلك العذاب وقد جاءهم فجعلهم منتظرين لها على معنى قربها منهم، كالرجل الذي ينتظر الشيء فهو ماد الطرف إليه يطمع كل ساعة في حضوره، ثم إنه سبحانه وصف هذه الصيحة فقال: * (ما لها من فواق) * قرأ حمزة والكسائي * (فواق) * بضم الفاء، والباقون بفتحها، قال الكسائي والفراء