يوم الحشر، فإن بقدر ما يزداد أحد الضدين شرفا يزداد الضد الآخر نقصانا والثاني: كأنه قيل لمحمد صلى الله عليه وسلم لا يضيق صدرك بسبب إنكارهم لقولك ودينك، فإنهم إذا خالفوك فالأكابر، من الأنبياء وافقوك والثالث: أن للناس في قصة داود قولين: منهم من قال إنها تدل على ذنبه، ومنهم من قال إنها لا تدل عليه فمن قال بالأول كان وجه المناسبة فيه كأنه قيل لمحمد صلى الله عليه وسلم إن حزنك ليس إلا، لأن الكفار يكذبونك، وأما حزن داود فكان بسبب وقوعه في ذلك الذنب ولا شك أن حزنه أشد، فتأمل في قصة داود وما كان فيه من الحزن العظيم حتى يخف عليك ما أنت فيه من الحزن ومن قال بالثاني قال: الخصمان لإيذائهما ولا دعا عليهما بسوء بل استغفر لهما على ما سيجيء تقرير هذه الطريقة فلا جرم أمر الله تعالى محمدا عليه السلام بأن يقتدي به في حسن الخلق والخامس: أن قريشا إنما كذبوا محمدا عليه السلام واستخفوا به لقولهم في أكثر الأمر إنه يتيم فقير، ثم إنه تعالى قص على محمد كمال مملكة داود، ثم بين أنه مع ذلك ما سلم من الأحزان والغموم، ليعلم أن الخلاص عن الحزن لا سبيل إليه في الدنيا والسادس: أن قوله تعالى: * (اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود) * غير مقتصر على داود فقط بل ذكر عقيب قصة داود قصص سائر الأنبياء فكأنه قال: * (اصبر على ما يقولون) * واعتبر بحال سائر الأنبياء ليعلمه أن كل واحد منهم كان مشغولا بهم خاص وحزن خاص، فحينئذ يعلم أن الدنيا لا تنفك عن الهموم والأحزان، وأن استحقاق الدرجات العالية عند الله لا يحصل إلا بتحمل المشاق والمتاعب في الدنيا، وهذه وجوه ذكرناها في هذا المقام وههنا وجه آخر أقوى وأحسن من كل ما تقدم، وسيجئ ذكره إن شاء الله تعالى عند الانتهاء إلى تفسير قوله: * (كتاب أنزلنا إليك مبارك ليدبروا آياته) * (ص: 29) واعلم أنه تعالى ذكر بعد ذلك حال تسعة من الأنبياء فذكر حال ثلاثة منهم على التفصيل وحال ستة آخرين على الإجمال.
فالقصة الأولى: قصة داود، واعلم أن مجامع ما ذكره الله تعالى في هذه القصة ثلاثة أنواع من الكلام فالأول: تفصيل ما آتي الله داود من الصفات التي توجب سعادة الآخرة والدنيا والثاني: شرح تلك الواقعة التي وقعت له من أمر الخصمين والثالث: استخلاف الله تعالى إياه بعد وقوع تلك الواقعة أما النوع الأول: وهو شرح الصفات التي آتاها الله داود من الصفات الموجبة لكمال السعادة فهي عشرة الأول: قوله لمحمد صلى الله عليه وسلم: * (اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود) * فأمر محمدا صلى الله عليه وسلم على جلالة قدره بأن يقتدي في الصبر على طاعة الله بداود وذلك تشريف عظيم وإكرام لداود حيث أمر الله أفضل الخلق محمدا صلى الله عليه وسلم بأن يقتدي به مكارم الأخلاق والثاني: أنه قال في حقه: * (عبدنا داود) * فوصفه بكونه عبدا له وعبر عن نفسه بصيغة الجمع الدالة على نهاية التعظيم، وذلك غاية التشريف، ألا ترى أنه سبحانه وتعالى لما أراد أن يشرف محمدا عليه السلام ليلة المعراج قال: * (سبحان الذي أسري بعبده) * (الإسراء: 1)