وقوله: * (إنا كذلك نجزي المحسنين) * ابتداء إخبار من الله تعالى، وليس يتصل بما تقدم من الكلام، والمعنى أن إبراهيم وولده كانا محسنين في هذه الطاعة، فكما جزينا هذين المحسنين فكذلك نجزي كل المحسنين.
ثم قال تعالى: * (إن هذا لهو البلاء المبين) * أي الاختبار البين الذي يتميز فيه المخلصون من غيرهم أو المحنة البينة الصعوبة التي لا محنة أصعب منها * (وفديناه بذبح عظيم) * الذبح مصدر ذبحت والذبح أيضا ما يذبح وهو المراد في هذه الآية، وههنا مباحث تتعلق بالحكايات فالأول: حكي في قصة الذبيح أن إبراهيم عليه السلام لما أراد ذبحه قال: يا بني خذ الحبل والمدية وانطلق بنا إلى الشعب نحتطب، فلما تسوطا شعب ثبير أخبره بما أمر به، فقال: يا أبت اشدد رباطي في كيلا أضطرب، واكفف عني ثيابك لا ينتضح عليها شيء من دمي فتراه أمي فتحزن، واستحد شفرتك وأسرع إمرارها على حلقي ليكون أهون فإن الموت شديد، واقرأ على أمي سلامي وإن رأيت أن ترد قميصي على أمي فافعل فإنه عسى أن يكون أسهل لها، فقال إبراهيم عليه السلام: نعم العون أنت يا بني على أمر الله، ثم أقب عليه يقبله وقد ربطه وهما يبكيان ثم وضع السكين على حلقه فقال: كبني على وجهي فإنك إذا نظرت وجهي رحمتني وأدركتك رقة وقد تحول بينك وبين أمر الله سبحانه وتعالى ففعل ثم وضع السكين على قفاه فانقلبت السكين ونودي يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا.
البحث الثاني: اختلفوا في ذلك الكبش فقيل إنه الكبش لذي تقرب به هابيل بن آدم إلى الله تعالى فقبله، وكان في الجنة يرعى حتى فدى الله تعالى به إسماعيل، وقال آخرون أرسل الله كبشا من الجنة قد رعى أربعين خريفا، وقال السدي: نودي إبراهيم فالتفت فإذا هو بكبش أملح انحط من الجبل، فقام عنه إبراهيم فأخذه فذبحه، وخلى عن ابنه، ثم اعتنق ابنه وقال: يا بني اليوم وهبت لي، وأما قوله: * (عظيم) * فقيل سمي عظيما لعظمه وسمنه، وقال سعيد بن جبير حق له أن يكون عظيما وقد رعى في الجنة أربعين خريفا، وقيل سمي عظيما لعظم قدره حيث قبله الله تعالى فداء عن ولد إبراهيم، ثم قال تعالى: * (إنه من عبادنا المؤمنين) * الضمير في قوله: * (إنه) * عائد إلى إبراهيم، ثم قال تعالى: * (وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين) * فقوله: * (نبيا) * حال مقدرة أي بشرناه بوجود إسحاق مقدرة نبوته، ولمن يقول إن الذبيح هو إسماعيل أن يحتج بهذه الآية، وذلك لأن قوله: * (نبيا) * حال ولا يجوز أن يكون المعنى فبشرناه بإسحاق حال كون إسحق نبيا لأن البشارة به متقدمة على صيرورته نبيا، فوجب أن يكون المعنى وبشرناه بإسحاق حال ما قدرناه نبيا، وحال ما حكمنا عليه فصبر، وإذا كان الأمر كذلك فحينئذ كانت هذه البشارة بشارة بوجود إسحاق حاصلة بعد قصة الذبيح، فوجب أن يكون الذبيح غير إسحاق، أقصى ما في الباب أن يقال لا يبعد أن يقال هذه الآية وإن كانت متأخرة في التلاوة عن قصة الذبيح إلا أنها كانت متقدمة عليها في الوقوع والوجود، إلا أنا نقول الأصل رعاية الترتيب وعدم التغيير في النظم، والله أعلم بالصواب.