الحقوا الملك حتى إذا دخل آخرهم وكاد أولهم أن يخرج التقى البحر عليهم فغرقوا فسمع بنو إسرائيل خفقة البحر عليهم، فقالوا: ما هذا يا موسى؟ قال: قد أغرق الله فرعون وقومه فرجعوا لينظروا إليهم فقالوا: يا موسى ادع الله أن يخرجهم لنا حتى ننظر إليهم، فدعا فلفظهم البحر إلى الساحل وأصابوا من سلاحهم، وذكر ابن عباس أن جبريل عليه السلام قال: يا محمد لو رأيتني وأنا أدس فرعون في الماء والطين مخافة أن يتوب فهذا معنى قوله: * (فغشيهم من اليم ما غشيهم) * وفي القصة أبحاث.
البحث الأول: روي في الأخبار أن موسى عليه السلام لما ضرب بعصاه البحر حصل اثنا عشر طريقا يابسا يتهيأ طروقه وبقي الماء قائما بين الطريق والطريق كالطود العظيم وهو الجبل. فأخذ كل سبط من بني إسرائيل في طريق من هذه الطرق. ومنهم من قال: بل حصل طريق واحد وحجة القول الأول الأخبار ومن القرآن قوله تعالى: * (فصار كل فرق كالطود العظيم) * (الشعراء: 63) وذلك لا يحصل إلا إذا حصل هناك طرق حتى يكون الماء القائم بين الطريقين كالطود العظيم وحجة القول الثاني ظاهر قوله: * (فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا) * وذلك يتناول الطريق الواحد وإن أمكن حمله على الطرق نظرا إلى الجنس.
البحث الثاني: روي أن بني إسرائيل بعد أن أظهر موسى عليه السلام لهم الطريق وبينها لهم تعنتوا وقالوا: نريد أن يرى بعضنا بعضا وهذا كالبعيد وذلك أن القوم لما أبصروا مجيء فرعون صاروا في نهاية الخوف والخائف إذا وجد طريق الفرار والخلاص كيف يتفرغ للتعنت البارد.
البحث الثالث: أن فرعون كان عاقلا بل كان في نهاية الدهاء فكيف اختار إلقاء نفسه إلى التهلكة فإنه كان يعلم من نفسه أن انفلاق البحر ليس بأمره فعند هذا ذكروا وجهين. أحدهما: أن جبريل عليه السلام كان على الرمكة فتبعه فرس فرعون، ولقائل أن يقول: هذا بعيد لأنه يبعد أن يكون خوض الملك في أمثال هذه المواضع مقدما على خوض جميع العسكر وما ذكروه إنما يتم إذا كان الأمر كذلك وأيضا فلو كان الأمر على ما قالوه لكان فرعون في ذلك الدخول كالمجبور وذلك مما يزيده خوفا ويحمله على الإمساك في أن لا يدخل وأيضا فأي حاجة لجبريل عليه السلام إلى هذه الحيلة وقد كان يمكنه أن يأخذه مع قومه ويرميه في الماء ابتداء، بل الأولى أن يقال: إنه أمر مقدمة عسكره بالدخول فدخلوا وما غرقوا فغلب على ظنه السلامة فلما دخل الكل أغرقهم الله تعالى.
البحث الرابع: أن الذي نقل عن جبريل عليه السلام أنه كان يدسه في الماء والطين خوفا من أن يؤمن فبعيد لأن المنع من الإيمان لا يليق بالملائكة والأنبياء عليهم السلام.
البحث الخامس: الذي روي أن موسى عليه السلام كلم البحر قال له: انفلق لي لأعبر عليك، فقال البحر: لا يمر علي رجل عاص. فهو غير ممتنع على أصولنا لأن عندنا البنية ليست شرطا للحياة وعند المعتزلة أن ذلك على لسان الحال لا على لسان المقال. والله أعلم.