السلام لما دعاه إلى الله تعالى لم يشتغل معه بالبطش والإيذاء بل خرج معه في المناظرة لما أنه لو شرع أولا في الإيذاء لنسب إلى الجهل والسفاهة فاستنكف من ذلك وشرع أولا في المناظرة وذلك يدل على أن السفاهة من غير الحجة شيء ما كان يرتضيه فرعون مع كمال جهله وكفره فكيف يليق ذلك بمن يدعي الإسلام والعلم ثم إن فرعون لما سأل موسى عليه السلام عن ذلك قبل موسى ذلك السؤال واشتغل بإقامة الدلالة على وجود الصانع وذلك يدل على فساد التقليد ويدل أيضا على فساد قول التعليمية الذين يقولون نستفيد معرفة الإله من قول الرسول لأن موسى عليه السلام اعترف ههنا بأن معرفة الله تعالى يجب أن تكون مقدمة على معرفة الرسول وتدل على فساد قول الحشوية الذين يقولون نستفيد معرفة الله والدين من الكتاب والسنة.
المسألة الثانية: تدل الآية على أنه يجوز حكاية كلام المبطل لأنه تعالى حكى كلام فرعون في إنكاره الإله وحكى شبهات منكري النبوة وشبهات منكري الحشر، إلا أنه يجب أنك متى أوردت السؤال فاقرنه بالجواب لئلا يبقى الشك كما فعل الله تعالى في هذه المواضع.
المسألة الثالثة: دلت الآية على أن المحق يجب عليه استماع كلام المبطل والجواب عنه من غير إيذاء ولا إيحاش كما فعل موسى عليه السلام بفرعون ههنا وكما أمر الله تعالى رسوله في قوله: * (أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة) * (النحل: 125) وقال: * (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله) * (التوبة: 6).
المسألة الرابعة: اختلف الناس في أن فرعون هل كان عارفا بالله تعالى فقيل إنه كان عارفا إلا أنه كان يظهر الإنكار تكبرا وتجبرا وزورا وبهتانا، واحتجوا عليه بستة أوجه. أحدها: قوله: * (لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض) * (الإسراء: 102) فمتى نصبت التاء في علمت كان ذلك خطابا من موسى عليه السلام مع فرعون فدل ذلك على أن فرعون كان عالما بذلك وكذا قوله تعالى: * (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا) * (النمل: 14). وثانيها: أنه كان عاقلا وإلا لم يجز تكليفه وكل من كان عاقلا قد علم بالضرورة أنه وجد بعد العدم وكل من كان كذلك افتقر إلى مدبر وهذان العلمان الضروريان يستلزمان العلم بوجود المدبر. وثالثها: قول موسى عليه السلام ههنا: * (ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى) * وكلمة الذي تقتضي وصف المعرفة بجملة معلومة فلا بد وأن تكون هذه الجملة قد كانت معلومة له. ورابعها: قوله في سورة القصص في صفة فرعون وقومه وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون فذلك يدل على أنهم كانوا عالمين بالمبدأ إلا أنهم كانوا منكرين للمعاد. وخامسها: أن ملك فرعون لم يتجاوز القبط ولم يبلغ الشام ولما هرب موسى عليه السلام إلى مدين قال له شعيب: * (لا تخف نجوت من القوم الظالمين) * (القصص: 25) فمع هذا كيف يعتقد أنه إله العالم؟ وسادسها: أنه لما قال: * (وما رب العالمين) * قال موسى عليه السلام: * (رب السماوات والأرض وما بينهما) * (الشعراء: 24) قال: * (إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون) * (الشعراء: 27) يعني أنا أطلب منه الماهية وهو يشرح الوصف