فهو لم ينازع موسى في الوجود بل طلب منه الماهية فدل هذا على اعترافه بأصل الوجود، ومن الناس من قال إنه كان جاهلا بربه واتفقوا على أن العاقل لا يجوز أن يعتقد في نفسه أنه خالق هذه السماوات والأرضين والشمس والقمر وأنه خالق نفسه لأنه يعلم بالضرورة عجزه عنها ويعلم بالضرورة أنها كانت موجودة قبله فيحصل العلم الضروري بأنه ليس موجودا لها ولا خالقا لها، واختلفوا في كيفية جهله بالله تعالى فيحتمل أنه كان دهريا نافيا للمؤثر أصلا، ويحتمل أنه كان فلسفيا قائلا بالعلة لموجبه، ويحتمل أنه كان من عبدة الكواكب، ويحتمل أنه كان من الحلولية المجسمة. وأما ادعاؤه الربوبية لنفسه فبمعنى أنه يجب عليهم طاعته والانقياد له وعدم الاشتغال بطاعة غيره.
المسألة الخامسة: أنه سبحانه حكى عنه في هذه السورة أنه قال: * (فمن ربكما يا موسى) * وقال في سورة الشعراء: * (وما رب العالمين) * فالسؤال ههنا بمن وهو عن الكيفية وفي سورة الشعراء بما وهو عن الماهية وهما سؤالان مختلفان والواقعة واحدة والأقرب أن يقال سؤال من كان مقدما على سؤال ما لأنه كان يقول إني أنا الله والرب فقال فمن ربكما فلما أقام موسى الدلالة على الوجود وعرف أنه لا يمكنه أن يقاومه في هذا المقام لظهوره وجلائه عدل إلى المقام الثاني وهو طلب الماهية وهذا أيضا مما ينبه على أنه كان عالما بالله لأنه ترك المنازعة في هذا المقام لعلمه بغاية ظهوره وشرع في المقام الصعب لأن العلم بماهية الله تعالى غير حاصل للبشر.
المسألة السادسة: إنما قال: * (فمن ربكما) * ولم يقل فمن إلهكما لأنه أثبت نفسه ربا في قوله: * (ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين) * (الشعراء: 18) فذكر ذلك على سبيل التعجب كأنه قال له أنا ربك فلم تدعى ربا آخر وهذا الكلام شبيه بكلام نمروذ لأن إبراهيم عليه السلام لما قال: * (ربي الذي يحيي ويميت) * (البقرة: 258) قال نمروذ له: * (أنا أحيي وأميت) * (البقرة: 258) ولم يكن الإحياء والإماتة التي ذكرهما إبراهيم عليه السلام هما الذي عارضه بهما نمروذ إلا في اللفظ فكذا ههنا لما ادعى موسى ربوبية الله تعالى ذكر فرعون هذا الكلام ومراده أني أنا الرب لأني ربيتك ومعلوم أن الربوبية التي ادعاها موسى لله سبحانه وتعالى غير هذه الربوبية في المعنى وأنه لا مشاركة بينهما إلا في اللفظ.
المسألة السابعة: اعلم أن موسى عليه السلام استدل على إثبات الصانع بأحوال المخلوقات وهو قوله: * (ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى) * وهذه الدلالة هي التي ذكرها الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم في قوله: * (سبح اسم ربك الأعلى * الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى) * (الأعلى: 1 - 3) قال إبراهيم عليه السلام: * (فإنهم عدو لي إلا رب العالمين الذي خلقني فهو يهدين) * وإن موسى عليه السلام في أكثر الأمور يعول على دلائل إبراهيم عليه السلام وسيأتي تقرير ذلك في سورة الشعراء إن شاء الله تعالى واعلم أنه يشبه أن يكون الخلق عبارة عن تركيب القوالب والأبدان والهداية عبارة عن إبداع القوى المدركة والمحركة في تلك الأجسام وعلى هذا التقدير يكون الخلق مقدما على الهداية ولذلك قال: * (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي) * (الحجر: 29) فالتسوية راجعة إلى القالب ونفخ الروح إشارة