موسى وعادة المقلد ليس إلا ذاك.
قوله تعالى * (قال ياهارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا * ألا تتبعن أفعصيت أمرى * قال يبنؤم لا تأخذ بلحيتى ولا برأسى إنى خشيت أن تقول فرقت بين بنى إسرءيل ولم ترقب قولى) * اعلم أن الطاعنين في عصمة الأنبياء عليهم السلام يتمسكون بهذه الآية من وجوه. أحدها: أن موسى عليه السلام إما أن يكون قد أمر هارون باتباعه أو لم يأمره، فإن أمره به فإما أن يكون هارون قد اتبعه أو لم يتبعه، فإن اتبعه كانت ملامة موسى لهارون معصية وذنبا لأن ملامة غير المجرم معصية. وإن لم يتبعه كان هارون تاركا للواجب فكان فاعلا للمعصية، وأما إن قلنا: إن موسى عليه السلام ما أمره باتباعه كانت ملامته إياه بترك الاتباع معصية فثبت أن على جميع التقديرات يلزم إسناد المعصية إما إلى موسى أو إلى هارون. وثانيها: قول موسى عليه السلام: * (أفعصيت أمري) * استفهام على سبيل الإنكار فوجب أن يكون هارون قد عصاه، وأن يكون ذلك العصيان منكرا، وإلا لكان موسى عليه السلام كاذبا وهو معصية، فإذا فعل هارون ذلك فقد فعل المعصية. وثالثها: قوله: * (يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي) * وهذا معصية لأن هارون عليه السلام قد فعل ما قدر عليه من النصيحة والوعظ والزجر، فإن كان موسى عليه السلام قد بحث عن الواقعة، وبعد أن علم أن هارون قد فعل ما قدر عليه كان الأخذ برأسه ولحيته معصية وإن فعل ذلك قبل تعرف الحال كان ذلك أيضا معصية. ورابعها: إن هارون عليه السلام قال: * (لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي) * فإن كان الأخذ بلحيته وبرأسه جائزا كان قول هارون لا تأخذ منعا له عما كان له أن يفعله فيكون ذلك معصية، وإن لم يكن ذلك الأخذ جائزا كان موسى عليه السلام فاعلا للمعصية فهذه أمثلة لطيفة في هذا الباب. والجواب عن الكل: أنا بينا في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى: * (فأزلهما الشيطان عنها) * (البقرة: 36) أنواعا من الدلائل الجلية في أنه لا يجوز صدور المعصية من الأنبياء، وحاصل هذه الوجوه تمسك بظواهر قابلة للتأويل ومعارضة ما يبعد عن التأويل بما يتسارع إليه التأويل غير جائز، إذا ثبتت هذه المقدمة فاعلم أن لنا في الجواب عن هذه الإشكالات وجوها. أحدها: أنا وإن اختلفنا في جواز المعصية على الأنبياء لكن اتفقنا على جواز ترك الأولى عليهم، وإن كان كذلك فالفعل الذي يفعله أحدهما ويمنعه الآخر أعني بهما