في السماوات والأرض) * (الفرقان: 6) قلت: ليس بواجب أن يجيء بالآكد في قوله في كل موضع، ولكن يجيء بالتوكيد مرة وبالآكد مرة أخرى، ثم الفرق أنه قدم ههنا أنهم أسروا النجوى، فكأنه أراد أن يقول: إن ربي يعلم ما أسروه، فوضع القول موضع ذلك للمبالغة وثمة قصد وصف ذاته بأن قال: * (أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض) * فهو كقوله: * (علام الغيوب) * (سبأ: 48)، * (عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة) * (سبأ: 3). المسألة الرابعة: إنما قدم السميع على العليم لأنه لا بد من سماع الكلام أولا ثم من حصول العلم بمعناه، أما قوله: * (بل قالوا أضغاث أحلام، بل افتراه بل هو شاعر فليأتنا بآية كما أرسل الأولون) * فاعلم أنه تعالى عاد إلى حكاية قولهم المتصل بقوله: * (هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر) * (الأنبياء: 3) ثم قال: * (بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر) * فحكى عنهم ثم هذه الأقوال الخمسة فترتيب كلامهم كأنهم قالوا: ندعي أن كونه بشرا مانع من كونه رسولا لله تعالى. سلمنا أنه غير مانع، ولكن لا نسلم أن هذا القرآن معجز، ثم إما أن يساعد على أن فصاحة القرآن خارجة عن مقدور البشر، قلنا: لم لا يجوز أن يكون ذلك سحرا وإن لم يساعد عليه فإن ادعينا كونه في نهاية الركاكة قلنا: إنها أضغاث أحلام، وإن ادعينا أنه متوسط بين الركاكة والفصاحة قلنا إنه افتراه، وإن ادعينا إنه كلام فصيح قلنا إنه من جنس فصاحة سائر الشعراء، وعلى جميع هذه التقديرات فإنه لا يثبت كونه معجزا، ولما فرغوا من تعديد هذه الاحتمالات قالوا: * (فليأتنا بآية كما أرسل الأولون) * فالمراد أنهم طلبوا آية جلية لا يتطرق إليها شيء من هذه الاحتمالات كالآيات المنقولة عن موسى وعيسى عليهما السلام، ثم إن الله تعالى بدأ بالجواب عن هذا السؤال الأخير بقوله: * (ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون) * والمعنى أنهم في العتو أشد من الذين اقترحوا على أنبيائهم الآيات وعهدوا أنهم يؤمنون عندها فلما جاءتهم نكثوا وخالفوا، فأهلكهم الله، فلو أعطيناهم ما يقترحون لكانوا أشد نكثا. قال الحسن رحمه الله تعالى: إنهم لم يجابوا لأن حكم الله تعالى أن من كذب بعد الإجابة إلى ما اقترحه من الآيات فلا بد من أن ينزل به عذاب الاستئصال وقد مضى حكمه في أمة محمد صلى الله عليه وسلم خاصة بخلافه فلذلك لم يجبهم.
قوله تعالى * (ومآ أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحى إليهم فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون * وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين * ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشآء