وأما من عقاب الآخرة فلأنه سبحانه وتعالى غفر له ذلك. المنة السادسة: قوله: * (وفتناك فتونا) * وفيه أبحاث:
البحث الأول: في قوله: * (فتونا) * وجهان: أحدهما: أنه مصدر كالعكوف والجلوس والمعنى وفتناك حقا وذلك على مذهبهم في تأكيد الأخبار بالمصادر كقوله تعالى: * (وكلم الله موسى تكليما) * (النساء: 164)، والثاني: أنه جمع فتن أو فتنة على ترك الاعتداد بتاء التأنيث كحجوز وبدور في حجزة وبدرة أي فتناك ضروبا من الفتن وههنا سؤالان. السؤال الأول: إن الله تعالى عدد أنواع مننه على موسى عليه السلام في هذا المقام فكيف يليق بهذا الموضع قوله: * (وفتناك فتونا) *. الجواب عنه من وجهين: أحدهما: أن الفتنة تشديد المحنة، يقال فتن فلان عن دينه إذا اشتدت عليه المحنة حتى رجع عن دينه قال تعالى: * (فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله) * (العنكبوت: 10) وقال تعالى: * (ألم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين) * (العنكبوت: 1 - 3) وقال: * (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله) * (البقرة: 214) فالزلزلة المذكورة في الآية ومس البأساء والضراء هي الفتنة والفتون، ولما كان التشديد في المحنة مما يوجب كثرة الثواب لا جرم عده الله تعالى من جملة النعم. وثانيها: * (فتناك فتونا) * أي خلصناك تخليصا من قولهم: فتنت الذهب من الفضة إذا أردت تخليصه وسأل سعيد بن جبير بن عباس عن الفتون فقال: نستأنف له نهارا يا ابن جبير. ثم لما أصبح أخذ ابن عباس يقرأ عليه الآيات الواردة في شأن موسى عليه السلام من ابتداء أمره فذكر قصة فرعون وقتله أولاد بني إسرائيل ثم قصة إلقاء موسى عليه السلام في اليم والتقاط آل فرعون إياه وامتناعه من الارتضاع من الأجانب، ثم قصة أن موسى عليه السلام أخذ لحية فرعون ووضعه الجمرة في فيه، ثم قصة قتل القبطي، ثم هربه إلى مدين وصيرورته أجيرا لشعيب عليه السلام، ثم عوده إلى مصر وأنه أخطأ الطريق في الليلة المظلمة واستئناسه بالنار من الشجرة وكان عند تمام كل واحدة منها يقول هذا من الفتون يا ابن جبير.
السؤال الثاني: هل يصح إطلاق اسم الفتان عليه سبحانه اشتقاقا من قوله: * (وفتناك فتونا) * والجواب لا لأنه صفة ذم في العرف وأسماء الله تعالى توقيفية لا سيما فيما يوهم ما لا ينبغي. المنة السابعة: قوله تعالى: * (فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر يا موسى) * واعلم أن التقدير: * (وفتناك فتونا) * فخرجت خائفا إلى أهل مدين فلبثت سنين فيهم، أما مدة اللبث فقال أبو مسلم: إنها مشروحة في قوله تعالى: * (ولما توجه تلقاء مدين) * - إلى قوله - * (فلما قضى موسى الأجل) * (القصص: 29) وهي إما عشرة وإما ثمان لقوله تعالى: * (على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك) * (القصص: 27) وقال وهب: لبث موسى عليه السلام عند شعيب عليه السلام ثمانيا وعشرين سنة منها عشر سنين