البعث إنما أنكره اتباعا للهوى لا لدليل وهذا من أعظم الدلائل على فساد التقليد لأن المقلد متبع للهوى لا الحجة أما قوله: * (فتردى) * فهو بمعنى ولا يصدنك فتردى وإن صدوك وقبلت فليس إلا الهلاك بالنار. واعلم أن المتوغلين في أسرار المعرفة قالوا: المقام مقامان. أحدهما: مقام المحو والفناء عما سوى الله تعالى. والثاني: مقام البقاء بالله والأول مقدم على الثاني لأن من أراد أن يكتب شيئا في لوح مشغول بكتابة أخرى فلا سبيل له إليه إلا بإزالة الكتابة الأولى ثم بعد ذلك يمكن إثبات الكتابة الثانية والحق سبحانه راعى هذا الترتيب الحسن في هذا الباب لأنه قال لموسى عليه السلام أولا: * (فاخلع نعليك) * وهو إشارة إلى تطهير السر عما سوى الله تعالى ثم بعد ذلك أمره بتحصيل ما يجب تحصيله وأصول هذا الباب ترجع إلى ثلاثة: علم المبدأ وعلم الوسط وعلم المعاد، فعلم المبدأ هو معرفة الحق سبحانه وتعالى وهو المراد بقوله: * (إنني أنا الله لا إله إلا أنا) * (طه: 14) وأما علم الوسط فهو علم العبودية ومعناها الأمر الذي يجب أن يشتغل الإنسان به في هذه الحياة الجسمانية وهو المراد بقوله: * (فاعبدني وأقم الصلاة لذكري) * (طه: 14) ثم في هذا أيضا تعثر لأن قوله: * (فاعبدني) * إشارة إلى الأعمال الجسمانية وقوله: * (لذكري) * إشارة إلى الأعمال الروحانية والعبودية أولها الأعمال الجسمانية وآخرها الأعمال الروحانية وأما علم المعاد فهو قوله: * (إن الساعة آتية أكاد أخفيها) * ثم إنه تعالى افتتح هذه التكاليف بمحض اللطف وهو قوله: * (إني أنا ربك) * (طه: 12) واختتمها بمحض القهر وهو قوله: * (فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى) * تنبيها على أن رحمته سبقت غضبه وإشارة إلى أن العبد لا بد له في العبودية من الرغبة والرهبة والرجاء والخوف، وعند الوقوف على هذه الجملة تعرف أن هذا الترتيب هو النهاية في الحسن والجودة وأن ذلك لا يتأتى إلا من العالم بكل المعلومات.
قوله تعالى * (وما تلك بيمينك يا موسى * قال هى عصاى أتوكؤا عليها وأهش بها على غنمى ولى فيها مأرب أخرى * قال ألقها يا موسى * فألقاها فإذا هى حية تسعى * قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الاولى) * اعلم أن قوله: * (وما تلك بيمينك) * لفظتان، فقوله: * (وما تلك) * إشارة إلى العصا، وقوله: * (بيمينك) * إشارة إلى اليد، وفي هذا نكت، إحداها: أنه سبحانه لما أشار إليهما جعل كل واحدة منهما معجزا قاهرا وبرهانا باهرا، ونقله من حد الجمادية إلى مقام الكرامة، فإذا صار