ورابعها: حكمة أفعاله في الدنيا: * (وما تلك بيمينك يا موسى) * (طه: 17)، وخامسها: عرض المعجزات الباهرة عليه: * (لنريك من آياتنا الكبرى) * (طه: 23)، وسادسها: إرساله إلى أعظم الناس كفرا وعتوا فكانت هذه التكاليف الشاقة سببا للقهر فأراد موسى عليه السلام جبر هذا القهر بالمعجز فعرفه أن كل من سأله قرب منه فقال: * (رب اشرح لي صدري) * فأراد جبر القهر الحاصل من هذه التكاليف بالقرب منه فقال: * (رب اشرح لي صدري) * أو يقال خاف شياطين الإنس والجن فدعا ليصل بسبب الدعاء إلى مقام القرب فيصير مأمونا من غوائل شياطين الجن والإنس. وثانيها: أن المراد أنه أراد الذهاب إلى فرعون وقومه فأراد أن يقطع طمع الخلق عن نفسه بالكلية فعرف أن من دعا ربه قربه له وقربه لديه فحينئذ تنقطع الأطماع بالكلية فقال: * (رب اشرح لي صدري) *. وثالثها: الوجود كالنور والعدم كالظلمة وكل ما سوى الله تعالى فهو عدم محض فكل شيء هالك إلا وجهه فالكل كأنهم في ظلمات العدم وإظلال عالم الأجسام والإمكان فقال: * (رب اشرح لي صدري) * حتى يجلس قلبي في بهي ضوء المعرفة وسادة شرح الصدر والجالس في الضوء لا يرى من كان جالسا في الظلمة فحين جلس في ضوء شرح الصدر لا يرى أحدا في الوجود فلهذا عقبه بقوله: * (ويسر لي أمري) * فإن العبد في مقام الاستغراق لا يتفرغ لشيء من المهمات. ورابعها: رب اشرح لي صدري فإن عين العين ضعيفة فأطلع يا إلهي شمس التوفيق حتى أرى كل شيء كما هو، وهذا في معنى قول محمد صلى الله عليه وسلم: " أرنا الأشياء كما هي " واعلم أن شرح الصدر مقدمة لسطوع الأنوار الإلهية في القلب والاستماع مقدمة الفهم الحاصل من سماع الكلأ فالله تعالى أعطى موسى عليه السلام المقدمة الثانية وهي فاستمع لما يوحى فلا جرم نسج موسى على ذلك المنوال فطلب المقدمة الأخرى فقال: * (رب اشرح لي صدري) * ولما آل الأمر إلى محمد صلى الله عليه وسلم قيل له: * (وقل رب زدني علما) * (طه: 114) والعلم هو المقصود، فلما كان موسى عليه السلام كالمقدمة لمقدم محمد صلى الله عليه وسلم لا جرم أعطى المقدمة، ولما كان محمد كالمقصود لا جرم أعطى المقصود فسبحانه ما أدق حكمته في كل شيء. وسادسها: الداعي له صفتان: إحداهما: أن يكون عبدا للرب: * (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب) * (البقرة: 186). وثانيتهما: أن يكون الرب له: * (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم) * (غافر: 60) أضاف نفسه إلينا وما أضافنا إلى نفسه والمشتغل بالدعاء قد صار كاملا من هذين الوجهين فأراد موسى عليه السلام أن يرتع في هذا البستان فقال: * (رب اشرح لي صدري) *. وسابعها: أن موسى عليه السلام شرفه الله تعالى بقوله: * (وقربناه نجيا) * (مريم: 52) فكأن موسى عليه السلام قال إلهي لما قلت: * (وقربناه نجيا) * صرت قريبا منك ولكن أريد قربك مني فقال يا موسى أما سمعت قولي: * (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب) * فأشتغل بالدعاء حتى أصير قريبا منك فعند ذلك: * (قال رب اشرح لي صدري) *. وثامنها: قال موسى عليه السلام: * (رب اشرح لي صدري) * وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم: * (ألم نشرح لك صدرك) * (الشرح: 1) ثم إنه تعالى ما تركه على هذه الحالة بل قال: * (وسراجا منيرا) * (الأحزاب: 46) فانظر إلى التفاوت فإن شرح الصدر هو أن يصير الصدر
(٣٩)