لما ذكر الدلالة الأولى وهي دلالة عامة تتناول جميع المخلوقات من الإنسان وسائر الحيوانات وأنواع النبات والجمادات ذكر بعد ذلك دلائل خاصة وهي ثلاثة. أولها: قوله تعالى: * (الذي جعل لكم الأرض مهدا) * وفيه أبحاث:
البحث الأول: قرأ أهل الكوفة ههنا وفي الزخرف * (مهدا) * والباقون قرؤوا مهادا فيهما قال أبو عبيدة: الذي اختاره مهادا وهو اسم والمهد اسم الفعل، وقال غيره: المهد الاسم والمهاد الجمع كالفرش والفراش أجاب أبو عبيدة بأن الفراش اسم والفرش فعل، وقال المفضل هما مصدران لمهد إذا وطأ له فراشا يقال مهد مهدا ومهادا وفرش فرشا وفراشا.
البحث الثاني: قال صاحب " الكشاف ": * (الذي جعل) * مرفوع لأنه خبر مبتدأ محذوف أو لأنه صفة لربي أو منصوب على المدح وهذا من مظانه ومجازه، واعلم أنه يجب الجزم بكونه خبرا لمبتدأ محذوف إذ لو حملناه على الوجهين الباقيين لزم كونه من كلام موسى عليه السلام ولو كان كذلك لفسد النظم بسبب قوله: * (فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى) * على ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
البحث الثالث: المراد من كون الأرض مهدا أنه تعالى جعلها بحيث يتصرف العباد وغيرهم عليها بالقعود والقيام والنوم والزراعة وجميع وجوه المنافع وقد ذكرناه مستقصى في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى: * (الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء) *. وثانيها: قوله تعالى: * (وسلك لكم فيها سبلا) * قال صاحب " الكشاف " سلك من قوله: * (ما سلككم في سقر) * (المدثر: 42) * (كذلك سلكناه في قلوب المجرمين) * (الشعراء: 200) أي جعل لكم فيها سبلا ووسطها بين الجبال والأودية والبراري. وثالثها: قوله: * (وأنزل من السماء ماء) * والكلام فيه قد مر في سورة البقرة أما قوله: * (فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى) * ففيه مسائل: المسألة الأولى: قوله: * (فأخرجنا) * فيه وجوه. أحدها: أن يكون هذا من تمام كلام موسى عليه السلام كأنه يقول ربي الذي جعل لكم كذا وكذا فأخرجنا نحن معاشر عباده بذلك الماء بالحراثة أزواجا من نبات شتى. وثانيها: أن عند قوله: * (وأنزل من السماء ماء) * تم كلام موسى عليه السلام ثم بعد ذلك أخبر الله تعالى عن صفة نفسه متصلا بالكلام الأول بقوله: * (فأخرجنا به) * ثم يدل على هذا الاحتمال قوله: * (كلوا وارعوا أنعامكم) *. وثالثها: قال صاحب " الكشاف " انتقل فيه من لفظ الغيبة إلى لفظ المتكلم المطاع للإيذان بأنه سبحانه وتعالى مطاع تنقاد الأشياء المختلفة لأمره ومثله قوله تعالى: * (وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء) * (الأنعام: 99) * (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها) * (فاطر: 27) * (أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة) * (النمل: 60) واعلم أن قوله: * (فأخرجنا) * إما أن يكون من كلام موسى عليه السلام أو من كلام الله تعالى والأول باطل لأن قوله بعد ذلك: * (كلوا وارعوا أنعامكم إن في