جرم أول ما أراد موسى أن يتحف الحضرة الإلهية بتحف الطاعات والعبادات أتحفها بالدعاء فلا جرم قال: * (رب اشرح لي صدري) *. والوجه الثاني: في بيان فضل الدعاء قوله عليه السلام: " الدعاء مخ العبادة " ثم إن أول شيء أمر الله تعالى به موسى عليه السلام (العبادة) لأن قوله: * (إنني أنا الله) * (طه: 14) إخبار وليس بأمر إنما الأمر قوله: * (فاعبدني) * (طه: 14) فلما كان أول ما أورد على موسى من الأوامر هو الأمر بالعبادة لا جرم أول ما أتحف به موسى عليه السلام حضرة الربوبية من تحف العبادة هو تحفة الدعاء فقال: * (رب اشرح لي صدري) *. والوجه الثالث: وهو أن الدعاء نوع من أنواع العبادة فكما أنه سبحانه وتعالى أمر بالصلاة والصوم فكذلك أمر بالدعاء ويدل عليه قوله تعالى: * (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب) * (البقرة: 186). * (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم) * (غافر: 60). * (وادعوه خوفا وطمعا) * (الأعراف: 56). * (ادعوا ربكم تضرعا وخفية) * (الأعراف: 55). * (هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين) * (غافر: 65). * (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن) * (الإسراء: 110). * (واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة) * (الأعراف: 205) وقال صلى الله عليه وسلم: " ادعوا بياذا الجلال والإكرام " فبهذه الآيات عرفنا أن الدعاء عبادة قال بعض الجهال: الدعاء على خلاف العقل من وجوه: أحدها: أنه علام الغيوب يعلم ما في الأنفس وما تخفي الصدور، فأي حاجة بنا إلى الدعاء. وثانيها: أن المطلوب إن كان معلوم الوقوع فلا حاجة إلى الدعاء وإن كان معلوم اللاوقوع فلا فائدة فيه. وثالثها: الدعاء يشبه الأمر والنهي وذلك من العبد في حق المولى سوء أدب. ورابعها: المطلوب بالدعاء إن كان من المصالح فالحكيم لا يهمله وإن لم يكن من المصالح لم يجز طلبه. وخامسها: فقد جاء أن أعظم مقامات الصديقين الرضا بقضاء الله تعالى. وقد ندب إليه والدعاء ينافي ذلك لأنه اشتغال بالالتماس والطلب. وسادسها: قال عليه السلام رواية عن الله تعالى: " من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطى السائلين " فدل على أن الأولى ترك الدعاء والآيات التي ذكرتموها تقتضي وجوب الدعاء. وسابعها: أن إبراهيم عليه السلام لما ترك الدعاء واكتفى بقوله: " حسبي من سؤالي علمه بحالي " استحق المدح العظيم فدل على أن الأولى ترك الدعاء. والجواب عن الأول أنه ليس الغرض من الدعاء الأعلام بل هو نوع تضرع كسائر التضرعات. وعن الثاني: أنه يجري مجرى أن نقول للجائع والعطشان إن كان الشبع معلوم الوقوع فلا حاجة إلى الأكل والشرب وإن كان معلوم اللاوقوع فلا فائدة فيه. وعن الثالث: أن الصيغة وإن كانت صيغة الأمر إلا أن صورة التضرع والخشوع تصرفه عن ذلك. وعن الرابع: يجوز أن يصير مصلحة بشرط سبق الدعاء. وعن الخامس: أنه إذا دعا إظهارا للتضرع ثم رضي بما قدره الله تعالى فذاك أعظم المقامات وهو الجواب عن البقية إذا ثبت أنه من العبادات، ثم إنه تعالى أمره بالعبادة وبالصلاة أمرا ورد مجملا لا جرم شرع في أجل العبادات وهو الدعاء. الوجه الرابع: في فضل الدعاء أنه سبحانه لم يقتصر في بيان فضل الدعاء على الأمر به بل بين في آية أخرى أنه يغضب إذا لم يسأل فقال: * (فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم
(٣٧)