البشر أنفسهم فخوطبا مخاطبتهم فقال: * (فإما يأتينكم) * على لفظ الجماعة، أما قوله: * (بعضكم لبعض عدو) * فقال القاضي: يكفي في توفية هذا الظاهر حقه أن يكون إبليس والشياطين أعداء للناس والناس أعداء لهم، فإذا انضاف إلى ذلك عداوة بعض الفريقين لبعض لم يمتنع دخوله في الكلام، وقوله: * (فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي) * فيه دلالة على أن المراد الذرية، وقد اختلفوا في المراد بالهدى، فقال بعضهم: الرسل وبعضهم قال: الآخر والأدلة وبعضهم قال القرآن، والتحقيق أن الهدى عبارة عن الدلالة فيدخل فيه كل ذلك، وفي قوله: * (فلا يضل ولا يشقى) * دلالة على أن المراد بالهدى الذي ضمن الله على اتباعه ذلك اتباع الأدلة، واتباعها لا يتكامل إلا بأن يستدل بها وبأن يعمل بها، ومن هذا حاله فقد ضمن الله تعالى له أن لا يضل ولا يشقى، وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة. وثانيها: لا يضل ولا يشقى في الآخرة لأنه تعالى يهديه إلى الجنة ويمكنه فيها. وثالثها: لا يضل ولا يشقى في الدنيا فإن قيل: المتبع لهدى الله قد يحلقه الشقاء في الدنيا، قلنا: المراد لا يضل في الدين ولا يشقى بسبب الدين فإن حصل الشقاء بسبب آخر فلا بأس، ولما وعد الله تعالى من يتبع الهدى أتبعه بالوعيد فيمن أعرض، فقال: * (ومن أعرض عن ذكري) * والذكر يقع على القرآن وعلى سائر كتب الله تعالى على ما تقدم بيانه ويحتمل أن يراد به الأدلة، وقوله: * (فإن له معيشة ضنكا) * فالضنك أصله الضيق والشدة وهو مصدر ثم يوصف به فيقال: منزل ضنك، وعيش ضنك، فكأنه قال: معيشة ذات ضنك، واعلم أن هذا الضيق المتوعد به إما أن يكون في الدنيا أو في القبر أو في الآخرة أو في الدين أو في كل ذلك أو أكثره. أما الأول: فقال به جمع من المفسرين وذلك لأن المسلم لتوكله على الله يعيش في الدنيا عيشا طيبا كما قال: * (فلنحيينه حياة طيبة) * (النحل: 97) والكافر بالله يكون حريصا على الدنيا طالبا للزيادة أبدا فعيشته ضنك وحالته مظلمة، وأيضا فمن الكفرة من ضرب الله عليه الذلة والمسكنة لكفره قال تعالى: * (وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءو بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله) * (البقرة: 61) وقال: * (ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم) * (المائدة: 66) وقال تعالى: * (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض) * (الأعراف: 96) وقال: * (استغفروا ربكم إنه كان غفارا * يرسل السماء عليكم مدرارا * ويمددكم بأموال وبنين) * (نوح: 10 - 12) وقال: * (وألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا) * (الجن: 16). وأما الثاني: وهو عذاب القبر، فهذا قول عبد الله بن مسعود وأبي سعيد الخدري وعبد الله بن عباس ورفعه أبو هريرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن عذاب القبر للكافر قال والذي نفسي بيده إنه ليسلط عليه في قبره تسعة وتسعون تنينا " قال ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت الآية في الأسود بن عبد العزى المخزومي والمراد ضغطة القبر تختلف فيها أضلاعه. وأما الثالث: وهو الضيق في الآخرة في جهنم، فإن طعامهم فيها الضريع والزقوم، وشرابهم الحميم والغسلين فلا يموتون فيها
(١٣٠)