المسألة الثالثة: قال صاحب " الكشاف ": لم ينو للعاكفين مفعولا وأجراه مجرى ما لا يتعدى كقولك فاعلون للعكوف أو واقفون لها، قال: فإن قلت هلا قيل عليها عاكفون كقوله: * (يعكفون على أصنام لهم) *؟ قلت: لو قصد التعدية لعداه بصلته التي هي على.
أما قوله: * (قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين) * فاعلم أن القوم لم يجدوا في جوابه إلا طريقة التقليد الذي يوجب مزيد النكير لأنهم إذا كانوا على خطأ من أمرهم لم يعصمهم من هذا الخطأ أن آباءهم أيضا سلكوا هذا الطريق فلا جرم أجابهم إبراهيم عليه السلام بقوله: * (لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين) * فبين أن الباطل لا يصير حقا بسبب كثرة المتمسكين به، فلما حقق عليه السلام ذلك عليهم ولم يجدوا من كلامه مخلصا ورأوه ثابتا على الإنكار قوى القلب فيه وكانوا يستبعدون أن يجري مثل هذا الإنكار عليهم مع كثرتهم وطول العهد بمذهبهم، فعند ذلك قالوا له: * (أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين) * موهمين بهذا الكلام أنه يبعد أن يقدم على الإنكار عليهم جادا في ذلك فعنده عدل صلى الله عليه وسلم إلى بيان التوحيد.
قوله تعالى * (قال بل ربكم رب السماوات والارض الذى فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين * وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين * فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون * قالوا من فعل هذا بالهتنآ إنه لمن الظالمين * قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم) * اعلم أن القوم لما أوهموا أنه يمازح بما خاطبهم به في أصنامهم أظهر عليه السلام ما يعلمون به أنه مجد في إظهار الحق الذي هو التوحيد وذلك بالقول أولا وبالفعل ثانيا، أما الطريقة القولية فهي قوله: * (بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن) * وهذه الدلالة تدل على أن الخالق الذي خلقهما لمنافع العباد هو الذي يحسن أن يعبد لأن من يقدر على ذلك يقدر على أن يضر وينفع في الدار الآخرة بالعقاب والثواب. فيرجع حاصل هذه الطريقة إلى الطريقة التي ذكرها لأبيه في قوله: * (يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا) * (مريم: 42) قال صاحب " الكشاف ": الضمير في فطرهن للسموات والأرض أو للتماثيل، وكونه للتماثيل أدخل في الاحتجاج عليهم.