عن اجتهاد من مع قوله: * (ففهمناها سليمان) *. والجواب عن الأول: أن الجهالة في القدر لا تمنع من الاجتهاد كالجعالات وحكم المصراة. وعن الثاني: لعله كان خطأ من باب الصغائر. وعن الثالث: بينا أن من تمسك بالقياس فالظن واقع في طريق إثبات الحكم فأما الحكم فمقطوع به. وعن الرابع: أنه إذا تأمل واجتهد فأداه اجتهاده إلى ما ذكرنا كان الله تعالى فهمه من حيث بين له طريق ذلك. فهذه جملة الكلام في بيان أنه لا يمتنع أن يكون اختلاف داود وسليمان عليهما السلام في ذلك الحكم إنما كان بسبب الاجتهاد. وأما بيان أنه لا يمتنع أيضا أن يكون اختلافهما فيه بسبب النص فطريقه أن يقال: إن داود عليه السلام كان مأمورا من قبل الله تعالى في هذه المسألة بالحكم الذي حكم به، ثم إنه سبحانه نسخ ذلك بالوحي إلى سليمان عليه السلام خاصة وأمره أن يعرف داود ذلك فصار ذلك الحكم حكمهما جميعا فقوله: * (ففهمناها سليمان) * أي أوحينا إليه فإن قيل هذا باطل لوجهين: الأول: لما أنزل الله تعالى الحكم الأول على داود وجب أن ينزل نسخه أيضا على داود لا على سليمان. الثاني: أن الله تعالى مدح كلا منهما على الفهم ولو كان ذلك على سبيل النص لم يكن في فهمه كثير مدح إنما المدح الكثير على قوة الخاطر والحذاقة في الاستنباط.
المسألة الثالثة: إذا أثبتم أنه يجوز أن يكون اختلافهما لأجل النص وأن يكون لأجل الاجتهاد فأي القولين أولى. والجواب: الاجتهاد أرجح لوجوه: أحدها: أنه روى في الأخبار الكثيرة أن داود عليه السلام لم يكن قد بت الحكم في ذلك حتى سمع من سليمان أن غير ذلك أولى، وفي بعضها أن داود عليه السلام ناشده لكي يورد ما عنده وكل ذلك لا يليق بالنص، لأنه لو كان نصا لكان يظهره ولا يكتمه.
السؤال الرابع: بينوا أنه كيف كان طريق الاجتهاد. الجواب: أن وجه الاجتهاد فيه ما ذكره ابن عباس رضي الله عنهما من أن داود عليه السلام قوم قدر الضرر بالكرم فكان مساويا لقيمة الغنم فكان عنده أن الواجب في ذلك الضرر أن يزال بمثله من النفع فلا جرم سلم الغنم إلى المجني عليه كما قال أبو حنيفة رحمه الله في العبد إذا جنى على النفس يدفعه المولى بذلك أو يفديه، وأما سليمان عليه السلام فإن اجتهاده أدى إلى أن يجب مقابلة الأصول بالأصول والزوائد بالزوائد، فأما مقابلة الأصول بالزوائد فغير جائز لأنه يقتضي الحيف والجور، ولعل منافع الغنم في تلك السنة كانت موازية لمنافع الكرم فحكم به، كما قال الشافعي رضي الله عنه: فيمن غصب عبدا فأبق من يده أنه يضمن القيمة لينتفع بها المغصوب منه بإزاء ما فوته الغاصب من منافع العبد فإذا ظهر ترادا.
السؤال الخامس: على تقدير أن ثبت قطعا أن تلك المخالفة كانت مبنية على الاجتهاد، فهل تدل هذه القصة على أن المصيب واحد أو الكل مصيبون. الجواب: أما القائلون بأن المصيب واحد ففيهم من استدل بقوله تعالى: * (ففهمناها سليمان) * قال ولو كان الكل مصيبا لم يكن لتخصيص