ثم إن الذي يدل على أن آدم عليه السلام قبل ذلك قوله تعالى عقيب ذكر الوسوسة فأكلا منها، وهذا الترتيب مشعر بالعلية كقولهم: " زنى ماعز فرجم " " وسها رسول الله فسجد " فإن هذه الفاء تدل على أن الرجم كالمسبب للزنا والسجود كالمسبب للسهو فكذلك ههنا يجب أن يكون الأكل كالمعلل باستماع قوله: * (هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى) * وإنما يحصل هذا التعليل لو قبل آدم ذلك منه، فإنه لو رد قوله لما أقدم على الأكل بناء على قوله، فثبت أن آدم عليه السلام قبل ذلك من إبليس ثم إنه سبحانه بين أنهما لما أكلا بدت لهما سوآتهما، قال ابن عباس: عريا من النور الذي كان الله ألبسهما حتى بدت فروجهما وإنما جمع فقيل سوآتهما كما قال: * (صغت قلوبكما) * (التحريم: 4) فإن قيل: هل كان ظهور سوآتهما كالجزاء على معصيتهما، قلنا: لا شك أن ذلك كالمعلق على ذلك الأكل، لكن يحتمل أن لا يكون عقابا عليه، بل إنما ترتب عليه لمصلحة أخرى أما قوله: * (وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة) * ففيه أبحاث:
البحث الأول: قال صاحب " الكشاف ": طفق يفعل كذا مثل جعل يفعل وأخذ وأنشأ وحكمها حكم كاد في وقوع الخبر فعلا مضارعا وبينها وبينه مسافة قصيرة، وهي للشروع في أول الأمر، وكاد لمقاربته والدنو منه. البحث الثاني: قرى يخصفان للتكثير والتكرير من خصف النعل، وهو أن يخرز عليها الخصاف أي يلزقان الورقة على سوآتهما للستر وهو ورق التين، أما قوله: * (وعصى آدم ربه فغوى) * فمن الناس من تمسك بهذا في صدور الكبيرة عنه من وجهين: الأول: أن العاصي اسم للذم فلا ينطلق إلا على صاحب الكبيرة لقوله تعالى: * (ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها) * (النساء: 14) ولا معنى لصاحب الكبيرة إلا من فعل فعلا يعاقب عليه. والوجه الثاني: أن الغواية والضلالة اسمان مترادفان والغي ضد الرشد ومثل هذا الاسم لا يتناول إلا الفاسق المنهمك في فسقه. أجاب قوم عن الكلام الأول فقالوا: المعصية مخالفة الأمر، والأمر قد يكون بالواجب والندب فإنهم يقولون: أشرت عليه في أمر ولده في كذا فعصاني، وأمرته بشرب الدواء فعصاني، وإذا كان الأمر كذلك لم يمتنع إطلاق اسم العصيان على آدم لا لكونه تاركا للواجب بل لكونه تاركا للمندوب، فأجاب المستدل عن هذا الاعتراض بأنا بينا أن ظاهر القرآن يدل على أن العاصي مستحق للعقاب والعرف يدل على أنه اسم ذم فوجب تخصيص اسم العاصي بتارك الواجب، ولأنه لو كان تارك المندوب عاصيا لوجب وصف الأنبياء بأسرهم بأنهم عصاة في كل حال لأنهم لا ينفكون من ترك المندوب، فإن قيل: وصف تارك المندوب بأنه عاص مجاز والمجاز لا يطرد، قلنا: لما سلمت كونه مجازا فالأصل عدمه، أما قوله: أشرت عليه في أمر ولده في كذا فعصاني وأمرته بشرب الدواء فعصاني قلنا: لا نسلم أن هذا الاستعمال مروي عن العرب، ولئن سلمنا ذلك ولكنهم إنما يطلقون ذلك إذا جزموا على المستشير بأنه لا بد وأن يفعل ذلك الفعل وأنه لا يجوز الإخلال بذلك الفعل