وحينئذ يكون معنى الإيجاب حاصلا وإن لم يكن الوجوب حاصلا، وذلك يدل على أن لفظ العصيان لا يجوز إطلاقه إلا عند تحقق الإيجاب، لكنا أجمعنا على أن الإيجاب من الله تعالى يقتضي الوجوب، فيلزم أن يكون إطلاق لفظ العصيان على آدم عليه السلام إنما كان لكونه تاركا للواجب، ومن الناس من سلم أن الآية تدل على صدور المعصية منه لكنه زعم أن المعصية كانت من الصغائر لا من الكبائر، وهذا قول عامة المعتزلة وهو أيضا ضعيف، لأنا بينا أن اسم العاصي اسم للذم، ولأن ظاهر القرآن يدل على أنه يستحق العقاب وذلك لا يليق بالصغيرة، وأجاب أبو مسلم الأصفهاني بأنه عصى في مصالح الدنيا لا فيما يتصل بالتكاليف وكذلك القول في غوى، وهذا أيضا بعيد لأن مصالح الدنيا تكون مباحة، ومن يفعلها لا يوصف بالعصيان الذي هو اسم للذم ولا يقال: (فدلالهما بغرور) وأما التمسك بقوله تعالى: * (فغوى) * فأجابوا عنه من وجوه: أحدها: أنه خاب من نعيم الجنة وذلك لأنه لما أكل من تلك الشجرة ليصير ملكه دائما ثم لما أكل زال فلما خاب سعيه وما نجح قيل إنه غوى، وتحقيقه أن الغي ضد الرشد، والرشد هو أن يتوصل بشيء إلى شيء يوصل إلى المقصود فمن توصل بشيء إلى شيء فحصل له ضد مقصوده كان ذلك غيا. وثانيها: قال بعضهم: غوى أي بشم من كثرة الأكل. قال صاحب الكشاف: هذا وإن صح على لغة من يقلب الياء المكسورة ما قبلها ألفا، فيقول في فنى وبقى فنا وبقا، وهم بنو طيء فهو تفسير خبيث، واعلم أن الأولى عندي في هذا الباب والأحسم للشغب أن يقال: هذه الواقعة كانت قبل النبوة وقد شرحنا ذلك في سورة البقرة. وههنا بحث لا بد منه وهو أن ظاهر القرآن وإن دل على أن آدم عصى وغوى لكن ليس لأحد أن يقول: إن آدم كان عاصيا غاويا، ويدل على صحة قولنا أمور: أحدها: قال العتبي: يقال لرجل قطع ثوبا وخاطه قد قطعه وخاطه، ولا يقال: خائط ولا خياط حتى يكون معاودا لذلك الفعل معروفا به، ومعلوم أن هذه الزلة لم تصدر عن آدم عليه السلام إلا مرة واحدة فوجب أن لا يجوز إطلاق هذا الاسم عليه. وثانيها: أن على تقدير أن تكون هذه الواقعة إنما وقعت قبل النبوة، لم يجز بعد أن قبل الله توبته وشرفه بالرسالة والنبوة، إطلاق هذا الاسم عليه كما لا يقال لمن أسلم بعد الكفر إنه كافر بمعنى أنه كان كافرا، بل وبتقدير أن يقال: هذه الواقعة وقعت بعد النبوة لم يجز أيضا أن يقال ذلك لأنه عليه السلام تاب عنها، كما أن الرجل المسلم إذا شرب الخمر أو زنى ثم تاب وحسنت توبته لا يقال له بعد ذلك إنه شارب خمر أو زان فكذا ههنا. وثالثها: أن قولنا: عاص وغاو يوهم كونه عاصيا في أكثر الأشياء وغاويا عن معرفة الله تعالى ولم ترد هاتان اللفظتان في القرآن مطلقتين بل مقرونتين بالقصة التي عصى فيها فكأنه قال: عصى في كيت وكيت وذلك لا يوهم التوهم الباطل الذي ذكرناه. ورابعها: أنه يجوز من الله تعالى ما لا يجوز من غيره، كما يجوز للسيد في عبيده وولده عند معصيته من إطلاق القول ما لا يجوز لغير السيد في عبده وولده، أما قوله: * (ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى) * فالمعنى ثم اصطفاه فتاب عليه أي عاد
(١٢٨)