الآخرة إن لم يقبلوا ذلك الدين. وقال آخرون: بل المراد منه الشك وتقريره من وجوه: الأول: إنه إنما قال: * (إني أخاف عليكم) * لأنه جوز أن يؤمنوا كما جوز أن يستمروا على كفرهم، ومع هذا التجويز لا يكون قاطعا بنزول العذاب، فوجب أن يذكره بلفظ الخوف. والثاني: أن حصول العقاب على الكفر والمعصية أمر لا يعرف إلا بالسمع ولعل الله تعالى ما بين له كيفية هذه المسألة فلا جرم بقي متوقفا مجوزا أنه تعالى هل يعاقبهم على ذلك الكفر أم لا؟ والثالث: يحتمل أن يكون المراد من الخوف الحذر كما قال في الملائكة: * (يخافون ربهم) * (النحل: 50) أي يحذرون المعاصي خوفا من العقاب. الرابع: إنه بتقدير أن يكون قاطعا بنزول أصل العذاب لكنه ما كان عارفا بمقدار ذلك العذاب، وهو أنه عظيم جدا أو متوسط، فكان هذا الشك راجعا إلى وصف العقاب، وهو كونه عظيما أم لا، لا في أصل حصوله.
ثم إنه تعالى حكى ما ذكره في قومه، فقال: * (قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين) * وقال المفسرون: * (الملأ) * الكبراء والسادات الذين جعلوا أنفسهم أضداد الأنبياء، والدليل عليه أن قوله * (من قومه) * يقتضي أن ذلك الملأ بعض قومه، وذلك البعض لا بد وأن يكونوا موصوفين بصفة لأجلها استحقوا هذا الوصف، وذلك بأن يكونوا هم الذين يملأون صدور المجالس، وتمتلئ القلوب من هيبتهم، وتمتلئ الأبصار من رؤيتهم، وتتوجه العيون في المحافل إليهم، وهذه الصفات لا تحصل إلا في الرؤساء، وذلك يدل على أن المراد من الملأ الرؤساء والأكابر. وقوله: * (إنا لنراك) * هذه الرؤية لا بد وأن تكون بمعنى الاعتقاد والظن دون المشاهدة والرؤية. وقوله: * (في ضلال مبين) * أي في خطأ ظاهر وضلال بين، ولا بد وأن يكون مرادهم نسبة نوح إلى الضلال في المسائل الأربع التي بينا أن نوحا عليه السلام ذكرها، وهي التكليف والتوحيد والنبوة والمعاد، ولما ذكروا هذا الكلام. أجاب نوح عليه السلام بقوله: * (يا قوم ليس بي ضلالة) *.
فإن قالوا: إن القوم قالوا: * (إنا لنراك في ضلال مبين) *.
فجوابه أن يقال: ليس بي ضلال، فلم ترك هذا الكلام، وقال: ليس بي ضلالة؟
قلت: لأن قوله: * (ليس بي ضلالة) * أي ليس بي نوع من أنواع الضلالة البتة، فكان هذا أبلغ في عموم السلب، ثم إنه عليه السلام لما نفي عن نفسه العيب الذي وصفوه به، ووصف نفسه بأشرف الصفات وأجلها، وهو كونه رسولا إلى الخلق من رب العالمين. ذكر ما هو المقصود من الرسالة، وهو أمران: الأول: تبليغ الرسالة. والثاني: تقرير النصيحة. فقال: * (أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم) * وفيه مسائل: