المسألة الثالثة: قال القاضي: هذا القول من إبليس كالدلالة على بطلان ما يقال: إنه يدخل في بدن ابن آدم ويخالطه، لأنه لو أمكنه ذلك لكان بأن يذكره في باب المبالغة أحق.
ثم قال تعالى حكاية عن إبليس أنه قال: * (ولا تجد أكثرهم شاكرين) * وفيه سؤال: وهو أن هذا من باب الغيب فكيف عرف إبليس ذلك فلهذا السبب اختلف العلماء فيه فقال بعضهم كان قد رآه في اللوح المحفوظ، فقال له على سبيل القطع واليقين. وقال آخرون: إنه قاله على سبيل الظن لأنه كان عازما على المبالغة في تزيين الشهوات وتحسين الطيبات، وعلم أنها أشياء يرغب فيها غلب على ظنه أنهم يقبلون قوله فيها على سبيل الأكثر والأغلب ويؤكد هذا القول بقوله تعالى: * (ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا) * (سبأ: 20) والعجب أن إبليس قال للحق سبحانه وتعالى: * (ولا تجد أكثرهم شاكرين) * فقال الحق ما يطابق ذلك * (وقليل من عبادي الشكور) * (سبأ: 13) وفيه وجه آخر. وهو أنه حصل للنفس تسع عشرة قوة، وكلها تدعو النفس إلى اللذات الجسمانية. والطيبات الشهوانية فخمسة منها هي الحواس الظاهرة، وخمسة أخرى هي الحواس الباطنة، واثنان الشهوة والغضب، وسبعة هي القوى الكامنة، وهي الجاذبة، والماسكة، والهاضمة، والدافعة، والغاذية، والنامية، والمولدة فمجموعها تسعة عشر وهي بأسرها تدعو النفس إلى عالم الجسم وترغبها في طلب اللذات البدنية، وأما العقل فهو قوة واحدة، وهي التي تدعو النفس إلى عبادة الله تعالى وطلب السعادات الروحانية ولا شك أن استيلاء تسع عشرة قوة أكمل من استيلاء القوة الواحدة. لا سيما وتلك القوى التسعة عشر تكون في أول الخلقة قوية ويكون العقل ضعيفا جدا وهي بعد قوتها يعسر جعلها ضعيفة مرجوحة فلما كان الأمر كذلك، لزم القطع بأن أكثر الخلق يكونون طالبين لهذه اللذات الجسمانية معرضين عن معرفة الحق ومحبته فلهذا السبب قال: * (ولا تجد أكثرهم شاكرين) * والله أعلم.
* (قال اخرج منها مذءوما مدحورا لمن اتبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين) *.
اعلم أن إبليس لما وعد بالإفساد الذي ذكره، خاطبه الله تعالى بما يدل على الزجر والإهانة فقال: * (اخرج منها) * من الجنة أو من السماء * (مذؤوما) * قال الليث: ذأمت الرجل فهو مذؤم أي محقور والذام الاحتقار، وقال الفراء: ذأمته إذا عبته يقولون في المثل لا تعدم الحسناء ذاما. وقال ابن