الجاه، ومنهم من يكون بالعكس، والراغبون في طلب المال منهم من يكون عظيم الرغبة في العقار وتفضل رغبته في النقود، ومنهم من تعظم رغبته في تحصيل النقود ولا يرغب في الضياع والعقار، وإذا تأملت في هذا النوع من الاعتبار تيقنت أن أحوال النفوس مختلفة في هذه الأحوال اختلافا جوهريا ذاتيا لا يمكن إزالته ولا تبديله، وإذا كان كذلك امتنع من النفس الغليظة الجاهلة المائلة بالطبع إلى أفعال الفجور أن تصير نفسا مشرقة بالمعارف الإلهية والأخلاق الفاضلة، ولما ثبت هذا كان تكليف هذه النفس بتلك المعارف اليقينية والأخلاق الفاضلة جاريا مجرى تكليف ما لا يطاق. فثبت بهذا البيان: أن السعيد من سعد في بطن أمه، والشقي من شقي في بطن أمه، وأن النفس الطاهرة يخرج نباتها من المعارف اليقينية والأخلاق الفاضلة بإذن ربها، والنفس الخبيثة لا يخرج نباتها إلا نكدا قليل الفائدة والخير، كثير الفضول والشر.
والوجه الثاني: من الاستدلال بهذه الآية في هذه المسألة قوله تعالى: * (بإذن ربه) * وذلك يدل على أن كل ما يعمله المؤمن من خير وطاعة لا يكون إلا بتوفيق الله تعالى.
المسألة الثالثة: قرىء * (يخرج نباته) * أي يخرجه البلد وينبته.
أما قوله تعالى: * (والذي خبث) * قال الفراء: يقال: خبث الشيء يخبث خبثا وخباثة. وقوله: * (إلا نكدا) * النكد: العسر الممتنع من إعطاء الخير على جهة البخل. وقال الليث: النكد: الشؤم واللؤم وقلة العطاء، ورجل أنكد ونكد قال: وأعط ما أعطيته طيبا * لا خير في المنكود والناكد إذا عرفت هذا فنقول: قوله: * (والذي خبث) * صفة للبلد ومعناه والبلد الخبيث لا يخرج نباته إلا نكدا، فحذف المضاف الذي هو النبات، وأقيم المضاف إليه الذي هو الراجح إلى ذلك البلد مقامه، إلا أنه كان مجرورا بارزا فانقلب مرفوعا مستكنا لوقوعه موقع الفاعل، أو يقدر ونبات الذي خبث، وقرئ * (نكدا) * بفتح الكاف على المصدر أي ذا نكد.
ثم قال تعالى: * (كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون) * قرىء * (يصرف) * أي يصرفها الله، وإنما ختم هذه الآية بقوله: * (لقوم يشكرون) * لأن الذي سبق ذكره هو أنه تعالى يحرك الرياح اللطيفة النافعة ويجعلها سببا لنزول المطر الذي هو الرحمة ويجعل تلك الرياح والأمطار سببا لحدوث أنواع النبات النافعة اللطيفة اللذيذة، فهذا من أحد الوجهين ذكر الدليل الدال على وجود الصانع وعلمه وقدرته وحكمته، ومن الوجه الثاني تنبيه على إيصال هذه النعمة العظيمة إلى العباد، فلا جرم كانت من حيث إنها دلائل على وجود الصانع وصفاته آيات ومن حيث أنها نعم يجب شكرها،