ثم حكى الله تعالى عن هؤلاء المتأخرين أنهم يدعون على أولئك المتقدمين بمزيد العذاب وهو قوله: * (فآتهم عذابا ضعفا من النار) * وفي الضعف، قولان:
القول الأول: قال أبو عبيدة " الضعف " هو مثل الشيء مرة واحدة. وقال الشافعي رحمه الله: ما يقارب هذا، فقال في رجل أوصى. فقال أعطوا فلانا ضعف نصيب ولدي. قال: يعطي مثله مرتين.
والقول الثاني: قال الأزهري: " الضعف " في كلام العرب المثل إلى ما زاد وليس بمقصور على المثلين، وجائز في كلام العرب أن تقول: هذا ضعفه، أي مثلاه وثلاثة أمثاله، لأن الضعف في الأصل زيادة غير محصورة، والدليل عليه: قوله تعالى: * (فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا) * (سبأ: 37) ولم يرد به مثلا ولا مثلين، بل أولى الأشياء به أن يجعل عشرة أمثاله، لقوله تعالى: * (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) * (الأنعام: 160) فثبت أن أقل الضعف محصور وهو المثل وأكثره غير محصور إلى ما لا نهاية له.
وأما مسألة الشافعي رحمه الله: فاعلم أن التركة متعلقة بحقوق الورثة، إلا أنا لأجل الوصية صرفنا طائفة منها إلى الموصى له، والقدر المتيقن في الوصية هو المثل، والباقي مشكوك، فلا جرم أخذنا المتيقن وطرحنا المشكوك، فلهذا السبب حملنا الضعف في تلك المسألة على المثلين.
أما قوله تعالى: * (قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون) * فيه مسألتان:
المسألة الأولى: قرأ أبو بكر عن عاصم * (يعلمون) * بالياء على الكناية عن الغائب، والمعنى: ولكن لا يعلم كل فريق مقدار عذاب الفريق الآخر، فيحمل الكلام على كل، لأنه وإن كان للمخاطبين فهو اسم ظاهر موضوع للغيبة، فحمل على اللفظ دون المعنى، وأما الباقون فقرؤوا بالتاء على الخطاب والمعنى: ولكن لا تعلمون أيها المخاطبون، ما لكل فريق منكم من العذاب، ويجوز ولكن لا تعلمون يا أهل الدنيا ما مقدار ذلك.
المسألة الثانية: لقائل أن يقول: إن كان المراد من قوله: * (لكل ضعف) * أي حصل لكل أحد من العذاب ضعف ما يستحقه، فذلك غير جائز لأنه ظلم، وإن لم يكن المراد ذلك، فما معنى كونه ضعفا؟
والجواب: أن عذاب الكفار يزيد، فكل ألم يحصل فإنه يعقبه حصول ألم آخر إلى غير نهاية فكانت تلك الآلام متضاعفة متزايدة لا إلى آخر، ثم بين تعالى أن أخراهم كما خاطبت أولاهم، فكذلك تجيب أولاهم أخراهم، فقال: * (وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل) * أي في ترك الكفر والضلال، وإنا متشاركون في استحقاق العذاب.