فإن قالوا: إذا كان مرادهم بعبادة تلك الأصنام التقرب بها إلى تعظيم الله تعالى، فما الوجه في قبح هذه العبادة؟
قلنا: فعلى هذا التقدير: لم يتخذوها آلهة أصلا وإنما جعلوها كالقبلة، وذلك ينافي قولهم * (اجعل لنا إلها كما لهم آلهة) * واعلم أن * (ما) * في قوله: * (كما لهم آلهة) * يجوز أن تكون مصدرية أي كما ثبت لهم آلهة، ويجوز أن تكون موصولة، وفي قولهم: * (لهم) * ضمير يعود إليه، و * (آلهة) * بدل من ذلك الضمير تقديره: كالذي هو لهم آلهة. ثم حكى تعالى عن موسى عليه السلام أنه قال: * (إن هؤلاء متبر ما هم فيه) * قال الليث: التبار الهلاك. يقال: تبر الشيء يتبر تبارا والتتبير الإهلاك، ومنه قوله تعالى: * (تبرنا تتبيرا) * ويقال للذهب المنكسر المتفتت: التبر فقوله: * (متبر ما هم فيه) * أي مهلك مدمر، وقوله: * (وباطل ما كانوا يعملون) * قيل: البطلان عدم الشيء، إما بعدم ذاته أو بعدم فائدته ومقصوده، والمراد من بطلان عملهم: أنه لا يعود عليهم من ذلك العمل نفع ولا دفع ضرر، وتحقيق القول في هذا الباب أن المقصود من العبادة أن تصير المواظبة على تلك الأعمال سببا لاستحكام ذكر الله تعالى في القلب حتى تصير تلك الروح سعيدة بحصول تلك المعرفة فيها. فإذا اشتغل الإنسان بعبادة غير الله تعالى، تعلق قلبه بغير الله ويصير ذلك التعلق سببا لأعراض القلب عن ذكر الله تعالى؛ وإذا ظهر هذا التحقيق ظهر أن الاشتغال بعبادة غير الله متبر وباطل، وضائع وسعى في تحصيل ضد هذا الشيء ونقيضه، لأنا بينا أن المقصود من العبادة رسوخ معرفة الله تعالى في القلب، والاشتغال بعبادة غير الله يزيل معرفة الله عن القلب، فكان هذا ضدا للغرض ونقيضا للمطلوب والله أعلم.
* (قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين) *.
اعلم أنه تعالى حكى عن موسى عليه السلام أنهم لما قالوا له: * (اجعل لنا إلها كما لهم آلهة) * فهو عليه السلام ذكر في الجواب وجوها: أولها: أنه حكم عليهم بالجهل فقال: * (إنكم قوم تجهلون) * وثانيها: أنه قال: * (إن هؤلاء متبر ما هم فيه) * أي سبب للخسران والهلاك. وثالثها: أنه قال: * (وباطل ما كانوا يعملون) * أي هذا العمل الشاق لا يفيدهم نفعا في الدنيا والدين. ورابعها: ما ذكره في هذه الآية من التعجب منهم على وجه يوجب الإنكار والتوبيخ فقال: * (أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين) * والمعنى: أن الإله ليس شيئا يطلب ويلتمس ويتخذ، بل الإله هو الله الذي يكون