الميزان، إنما يراد ليتوصل به إلى معرفة مقدار الشيء، ومقادير الثواب والعقاب لا يمكن إظهارها بالميزان، لأن أعمال العباد أعراض وهي قد فنيت وعدمت، ووزن المعدوم محال، وأيضا فبتقدير بقائها كان وزنها محالا، وأما قولهم الموزون صحائف الأعمال أو صور مخلوقة على حسب مقادير الأعمال. فنقول: المكلف يوم القيامة، إما أن يكون مقرا بأنه تعالى عادل حكيم أو لا يكون مقرا بذلك فإن كان مقرا بذلك، فحينئذ كفاه حكم الله تعالى بمقادير الثواب والعقاب في علمه بأنه عدل وصواب وإن لم يكن مقرا بذلك لم يعرف من رجحان كفة الحسنات على كفة السيئات أو بالعكس حصول الرجحان لاحتمال أنه تعالى أظهر ذلك الرجحان لا على سبيل العدل والإنصاف. فثبت أن هذا الوزن لا فائدة فيه البتة، أجاب الأولون وقالوا إن جميع المكلفين يعلمون يوم القيامة أنه تعالى منزه عن الظلم والجور، والفائدة في وضع ذلك الميزان أن يظهر ذلك الرجحان لأهل القيامة، فإن كان ظهور الرجحان في طرف الحسنات، ازداد فرحه وسروره بسبب ظهور فضله وكمال درجته لأهل القيامة وإن كان بالضد فيزداد غمه وحزنه وخوفه وفضيحته في موقف القيامة، ثم اختلفوا في كيفية ذلك الرجحان، فبعضهم قال يظهر هناك نور في رجحان الحسنات، وظلمة في رجحان السيئات، وآخرون قالوا بل بظهور رجحان في الكفة.
المسألة الثالثة: الأظهر إثبات موازين في يوم القيامة لا ميزان واحد والدليل عليه قوله: * (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة) * (الأنبياء: 47) وقال في هذه الآية: * (فمن ثقلت موازينه) * وعلى هذا فلا يبعد أن يكون لأفعال القلوب ميزان، ولأفعال الجوارح ميزان، ولما يتعلق بالقول ميزان آخر. قال الزجاج: إنما جمع الله الموازين ههنا، فقال: * (فمن ثقلت موازينه) * ولم يقل ميزانه لوجهين: الأول: أن العرب قد توقع لفظ الجمع على الواحد. فيقولون: خرج فلان إلى مكة على البغال. والثاني: أن المراد من الموازين ههنا جمع موزون لا جمع ميزان وأراد بالموازين الأعمال الموزونة ولقائل أن يقول هذان الوجهان يوجبان العدول عن ظاهر اللفظ، وذلك إنما يصار إليه عند تعذر حمل الكلام على ظاهره ولا مانع ههنا منه فوجب إجراء اللفظ على حقيقته فكما لم يمتنع إثبات ميزان له لسان وكفتان فكذلك لا يمتنع إثبات موازين بهذه الصفة، فما الموجب لترك الظاهر والمصير إلى التأويل.
وأما قوله تعالى: * (ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون) *.
اعلم أن هذه الآية فيها مسائل:
المسألة الأولى: أنها تدل على أن أهل القيامة فريقان منهم من يزيد حسناته على سيئاته، ومنهم من يزيد سيئاته على حسناته، فأما القسم الثالث وهو الذي تكون حسناته وسيئاته متعادلة متساوية