إلا أنه زيف عبادة الأوثان ونسب من اشتغل بعبادتها إلى السفاهة وقلة العقل. فلما ذكر هود هذا الكلام في أسلافهم قابلوه بمثله ونسبوه إلى السفاهة ثم قالوا: * (وإنا لنظنك من الكاذبين) * في ادعاء الرسالة واختلفوا في تفسير هذا الظن فقال بعضهم: المراد منه القطع والجزم، وورود الظن بهذا المعنى في القرآن كثير. قال تعالى: * (الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم) * (البقرة: 46) وقال الحسن والزجاج: كان تكذيبهم إياه على الظن لا على اليقين فكفروا به ظانين لا متيقنين، وهذا يدل على أن حصول الشك والتجويز في أصول الدين يوجب الكفر.
والفرق الخامس: بين القصتين أن نوحا عليه السلام. قال: * (أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون) * (الأعراف: 62) وأما هود عليه السلام فقال: * (أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين) * فنوح عليه السلام. قال: * (أنصح لكم) * وهو صيغة الفعل وهود عليه السلام قال: * (وأنا لكم ناصح) * وهو صيغة اسم الفاعل ونوح عليه السلام. قال: * (وأعلم من الله ما لا تعلمون) * وهود عليه السلام لم يقل ذلك، ولكنه زاد فيه كونه أمينا، والفرق بين الصورتين أن الشيخ عبد القاهر النحوي ذكر في كتاب دلائل الإعجاز أن صيغة الفعل تدل على التجدد ساعة فساعة، وأما صيغة اسم الفاعل فإنها دالة على الثبات والاستمرار على ذلك الفعل.
وإذا ثبت هذا فنقول: إن القوم كانوا يبالغون في السفاحة على نوح عليه السلام، ثم إنه في اليوم الثاني كان يعود إليهم ويدعوهم إلى الله، وقد ذكر الله تعالى عنه ذلك فقال: * (رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا) * (نوح: 5) فلما كان من عادة نوح عليه السلام العود إلى تجديد تلك الدعوة في كل يوم وفي كل ساعة لا جرم ذكره بصيغة الفعل، فقال: * (وأنصح لكم) * وأما هود عليه السلام فقوله: * (وأنا لم ناصح) * يدل على كونه مثبتا في تلك النصيحة مستقرا فيها. أما ليس فيها إعلام بأنه سيعود إلى ذكرها حالا فحالا ويوما فيوما، وأما الفرق الآخر في هذه الآية وهو أن نوحا عليه السلام قال: * (وأعلم من الله ما لا تعلمون) * وهودا وصف نفسه بكونه أمينا. فالفرق أن نوحا عليه السلام كان أعلى شأنا وأعظم منصبا في النبوة من هود، فلم يبعد أن يقال: إن نوحا كان يعلم من أسرار حكم الله وحكمته ما لم يصل إليه هود، فلهذا السبب أمسك هود لسانه عن ذكر تلك الكلمة، واقتصر على أن وصف نفسه بكونه أمينا: ومقصود منه أمور: أحدها: الرد عليهم في قولهم: * (وإنا لنظنك من الكاذبين) * وثانيها: أن مدار أمر الرسالة والتبليغ عن الله على الأمانة فوصف نفسه بكونه أمينا تقريرا للرسالة والنبوة. وثالثها: كأنه قال لهم: كنت قبل هذه الدعوى أمينا فيكم، ما وجدتم مني غدرا ولا مكرا ولا كذبا، واعترفتم لي بكوني أمينا فكيف نسبتموني الآن إلى الكذب؟