اعلم أن هودا عليه السلام دعا قومه إلى التوحيد وترك عبادة الأصنام بالدليل القاطع، وذلك لأنه بين أن نعم الله عليهم كثيرة عظيمة، وصريح العقل يدل على أنه ليس للأصنام شيء من النعم على الخلق لأنها جمادات، والجماد لا قدرة له على شيء أصلا، وظاهر أن العبادة نهاية التعظيم. ونهاية التعظيم لا تليق إلا بمن يصدر عنه نهاية الإنعام. وذلك يدل على أنه يجب عليهم أن يعبدوا الله، وأن لا يعبدوا شيئا من الأصنام، ومقصود الله تعالى من ذكر أقسام إنعامه على العبيد، هذه الحجة التي ذكرها. ثم أن هودا عليه السلام لما ذكر هذه الحجة اليقينية لم يكن من القوم جواب عن هذه الحجة التي ذكرها إلا التمسك بطريقة التقليد. فقالوا: * (أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا) * ثم قالوا: * (فاتنا بما تعدنا) * وذلك لأنه عليه السلام قال: * (اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون) * (المؤمنون: 32) فقوله: * (أفلا تتقون) * مشعر بالتهديد والتخويف بالوعيد. فلهذا المعنى قالوا: * (فأتنا بما تعدنا) * وإنما قالوا ذلك لأنهم كانوا يعتقدون كونه كاذبا بدليل أنهم قالوا له: * (وإنا لنظنك من الكاذبين) * (الأعراف: 66) فلما اعتقدوا كونه كاذبا قالوا له: * (فاتنا بما تعدنا) * والغرض أنه إذا لم يأتهم بذلك العذاب ظهر للقوم كونه كاذبا، وإنما قالوا ذلك لأنهم ظنوا أن الوعد لا يجوز أن يتأخر، فلا جرم استعجلوه على هذا الحد.
ثم حكى الله تعالى عن هود عليه السلام أنه قال عند هذا الكلام: * (قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: هذا الذي أخبر الله عنه بأنه وقع لا يجوز أن يكون هو العذاب، لأن العذاب ما كان حاصلا في ذلك الوقت. وقد اختلفوا فيه. قال القاضي: تفسير هذه الآية على قولنا ظاهر، إلا أنا نقول: معناه أنه تعالى أحدث إرادة في ذلك الوقت، لأن بعد كفرهم وتكذيبهم حدثت هذه الإرادة. واعلم أن هذا القول عندنا باطل، بل عندنا في الآية وجوه من التأويلات: أحدها: أنه تعالى أخبره في ذلك الوقت بنزول العذاب عليهم، فلما حدث الإعلام في ذلك الوقت، لا جرم قال هود في ذلك الوقت: * (وقع عليكم من ربكم رجس وغضب) * وثانيها: أنه جعل التوقع الذي لا بد من نزوله بمنزلة الواقع. ونظيره قولك لمن طلب منك شيئا، قد كان ذلك بمعنى أنه سيكون، ونظيره قوله تعالى: * (أتى أمر الله) * (النحل: 1) بمعنى: سيأتي أمر الله. وثالثها: أنا نحمل قوله: * (وقع) * على معنى وجد وحصل، والمعنى: إرادة إيقاع العذاب عليكم حصلت من الأزل إلى الأبد، لأن قولنا: حصل لا إشعار له بالحدوث بعد ما لم يكن.
المسألة الثانية: الرجس لا يمكن أن يكون المراد منه العذاب لأن المراد من الغضب