وجهين: أحدهما: أنه تعالى كان قد أنزل عليه كتابا، وكان ذلك الكتاب معجزا، فسماه الله تعالى ذكرا، كما سمي القرآن بهذا الاسم، وجعله معجزة لمحمد صلى الله عليه وسلم. والثاني: أن ذلك المعجز كان شيئا آخر سوى الكتاب. وقوله: * (على رجل) * قال الفراء: * (علي) * ههنا بمعنى مع ما تقول: جاء بالخبر على وجهه ومع وجهه، كلاهما جائز. وقال ابن قتيبة: أي على لسان رجل منكم، كما قال * (ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك) * (آل عمران: 194) أي على لسان رسلك. وقال آخرون: * (ذكر من ربكم) * منزل على رجل، وقوله: * (منكم) * أي تعرفون نسبه فهو منكم نسبا، وذلك لأن كونه منهم يزيل التعجب، لأن المرء بمن هو من جنسه أعرف، وبطهارة أحواله أعلم، وبما يقتضي السكون إليه أبصر، ثم بين تعالى ما لأجله يبعث الرسول، فقال: * (لينذركم) * وما لأجله ينذر، فقال: * (ولتتقوا) * وما لأجله يتقون، فقال: * (ولعلكم ترحمون) * وهذا الترتيب في غاية الحسن، فإن المقصود من البعثة الإنذار، والمقصود من الإنذار.
التقوى عن كل ما لا ينبغي، والمقصود من التقوى، الفوز بالرحمة في دار الآخرة. قال الجبائي والكعبي والقاضي: هذه الآية دالة على أنه تعالى أراد من الذين بعث الرسل إليهم، التقوى والفوز بالرحمة، وذلك يبطل قول من يقول: إنه تعالى أراد من بعضهم الكفر والعناد، وخلقهم لأجل العذاب والنار.
وجواب أصحابنا أن نقول: إن لم يتوقف الفعل على الداعي لزم رجحان الممكن لا لمرجح، وإن توقف لزم الجبر، ومتى لزم ذلك وجب القطع، فإنه تعالى أراد الكفر من الكافر، وذلك يبطل مذهبكم. ثم بين تعالى أنهم مع لك كذبوه في ادعاء النبوة وتبليغ التكاليف من الله وأصروا على ذلك التكذيب، ثم إنه تعالى أنجاه في الفلك وأنجى من كان معه من المؤمنين وأغرق الكفار والمكذبين. وبين العلة في ذلك فقال: * (إنهم كانوا قوما عمين) * قال ابن عباس: عميت قلوبهم عن معرفة التوحيد والنبوة والمعاد، قال أهل اللغة: يقال رجل عم في البصيرة وأعمى في البصر * (فعميت عليهم الأنباء يومئذ) * (القصص: 66) وقال: * (قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمى فعليها) * (الأنعام: 104) قال زهير: وأعلم ما في اليوم والأمس قبله * ولكنني عن علم ما في غد عمي قال صاحب " الكشاف ": قرىء * (عامين) * والفرق بين العمي والعامي أن العمي يدل على عمي ثابت. والعامي على عمي حادث، ولا شك أن عماهم كان ثابتا راسخا، والدليل عليه قوله تعالى في آية أخرى: * (وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن) * (هود: 36).