إكرام الله في حق الرسل لظهور براءتهم عن جميع موجبات التقصير، ويتضاعف أسباب الخزي والإهانة في حق الكفار، لما ثبت أن كل التقصير كان منهم.
ثم قال تعالى: * (فلنقصن عليهم بعلم) * والمراد أنه تعالى يكرر ويبين للقوم ما أعلنوه وأسروه من أعمالهم، وأن يقص الوجوه التي لأجلها أقدموا على تلك الأعمال، ثم بين تعالى أنه إنما يصح منه أن يقص تلك الأحوال عليهم لأنه ما كان غائبا عن أحوالهم بل كان عالما بها. وما خرج عن علمه شيء منها، وذلك يدل على أن الإلهية لا تكمل إلا إذا كان عالما بجميع الجزئيات، حتى يمكنه أن يميز المطيع عن العاصي، والمحسن عن المسئ، فظهر أن كل من أنكر كونه تعالى عالما بالجزئيات، امتنع منه الاعتراف بكونه تعالى آمرا ناهيا مثيبا معاقبا، ولهذا السبب فإنه تعالى أينما ذكر أحوال البعث والقيامة بين كونه عالما بجميع المعلومات.
المسألة الثالثة: قوله تعالى: * (فلنقصن عليهم بعلم) * يدل على أنه تعالى عالم بالعلم، وأن قول من يقول: إنه لا علم لله قول باطل.
فإن قيل: كيف الجمع بين قوله: * (فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين) * وبين قوله: * (فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان) * (الرحمان: 39) وقوله: * (ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون) * (القصص: 78).
قلنا فيه وجوه: أحدها: أن القوم لا يسألون عن الأعمال، لأن الكتب مشتملة عليها ولكنهم يسألون عن الدواعي التي دعتهم إلى الأعمال، وعن الصوارف التي صرفتم عنها. وثانيها: أن السؤال قد يكون لأجل الاسترشاد والاستفادة، وقد يكون لأجل التوبيخ والإهانة، كقول القائل ألم أعطك وقوله تعالى: * (ألم أعهد إليكم يا بني آدم) * (يس: 60) قال الشاعر: ألستم خير من ركب المطايا (c) إذا عرفت هذا فنقول: إنه تعالى لا يسأل أحدا لأجل الاستفادة والاسترشاد، ويسألهم لأجل توبيخ الكفار وإهانتهم، ونظيره قوله تعالى: * (وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون) * (الصافات: 27) ثم قال: * (فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون) * (المؤمنون: 101) فإن الآية الأولى تدل على أن المسألة الحاصلة بينهم إنما كانت على سبيل أن بعضهم يلوم بعضا، والدليل عليه قول: * (فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون) * (القلم: 30) وقوله: * (فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون) * (القلم: 30) معناه أنه لا يسأل بعضهم بعضا على سبيل الشفقة واللطف، لأن النسب يوجب الميل والرحمة والإكرام.
والوجه الثالث: في الجواب: أن يوم القيامة يوم طويل ومواقفها كثيرة، فأخبر عن بعض الأوقات بحصول السؤال، وعن بعضها بعدم السؤال.