وانحلبت عيناه من فرط الأسى إذا عرفت هذا فنقول: في الآية قولان:
القول الأول: أنه اشتد حزنه على قومه، لأنهم كانوا كثيرين، وكان يتوقع منهم الاستجابة للإيمان، فلما أن نزل بهم ذلك الهلاك العظيم، حصل في قلبه من جهة الوصلة والقرابة والمجاورة وطول الألفة. ثم عزى نفسه وقال: * (فكيف آسى على قوم كافرين) * لأنهم هم الذين أهلكوا أنفسهم بسبب إصرارهم على الكفر.
والقول الثاني: أن المراد لقد أعذرت إليكم في الإبلاغ والنصيحة والتحذير مما حل بكم، فلم تسمعوا قولي، ولم تقبلوا نصيحتي * (فكيف آسى عليكم) * يعني أنهم ليسوا مستحقين بأن يأسى الإنسان عليهم. قال صاحب " الكشاف ": وقرأ يحيى بن وثاب * (فكيف إيسى) * بكسر الهمزة.
* (ومآ أرسلنا فى قرية من نبى إلا أخذنا أهلها بالبأسآء والضرآء لعلهم يضرعون * ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس ءاباءنا الضرآء والسرآء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون) *.
اعلم أنه تعالى لما عرفنا أحوال هؤلاء الأنبياء، وأحوال ما جرى على أممهم، كان من الجائز أن يظن أنه تعالى ما أنزل عذاب الاستئصال، إلا في زمن هؤلاء الأنبياء فقط، فبين في هذه الآية أن هذا الجنس من الهلاك قد فعله بغيرهم، وبين العلة التي بها يفعل ذلك: قال تعالى: * (وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء) * وإنما ذكر القرية لأنها مجتمع القوم الذين إليهم يبعث الرسل، ويدخل تحت هذا اللفظ المدينة، لأنها مجتمع الأقوام وقوله: * (من نبي) * فيه حذف وإضمار، والتقدير: من نبي فكذب أو كذبه أهلها، إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء. قال الزجاج: البأساء كل ما نالهم من الشدة في أحوالهم، والضراء ما نالهم من الأمراض. وقيل على العكس، ثم بين تعالى أنه يفعل ذلك لكي يضرعوا، معناه: يتضرعوا، والتضرع هو الخضوع والانقياد لله تعالى، ولما علمت أن قوله: * (لعلهم) * لا يمكن حمله على الشك في حق الله تعالى، وجب حمله على أن