الوجه الثاني: هب أن تلك الأجزاء الدخانية صعدت إلى الطبقة الهوائية المتحركة بحركة الفلك لكنها لما رجعت، وجب أن تنزل على الاستقامة، لأن الأرض جسم ثقيل، والثقيل إنما يتحرك بالاستقامة والرياح ليست كذلك، فإنها تتحرك يمنة ويسرة.
الوجه الثالث: وهو أن حركة تلك الأجزاء الأرضية النازلة لا تكون حركة قاهرة، فإن الرياح إذا أحضرت الغبار الكثير، ثم عاد ذلك الغبار، ونزل على السطوح لم يحس أحد بنزولها، وترى هذه الرياح تقلع الأشجاء وتهدم الجبال وتموج البحار.
والوجه الرابع: أنه لو كان الأمر على ما قالوه، لكانت الرياح كلما كانت أشد، وجب أن يكون حصول الأجزاء الغبارية الأرضية أكثر، لكنه ليس الأمر كذلك لأن الرياح قد يعظم عصوفها وهبوبها في وجه البحر، مع أن الحس يشهد أنه ليس في ذلك الهواء المتحرك العاصف شيء من الغبار والكدرة فبطل. ما قالوه، وبطل بهذا الوجه العلة التي ذكروها في حركة الرياح. قال المنجمون: إن قوى الكواكب هي التي تحرك هذه الرياح وتوجب هبوبها، وذلك أيضا بعيد لأن الموجب لهبوب الرياح إن كان طبيعة الكواكب وجب دوام الرياح بدوام تلك الطبيعة، وإن كان الموجب هو طبيعة الكوكب بشرط حصوله في البرج المعين والدرجة المعينة وجب أن يتحرك هواء كل العالم، وليس كذلك، وأيضا قد بينا أن الأجسام متماثلة باختصاص الكوكب المعين والبرج المعين فالطبيعة التي لأجلها اقتضت ذلك الأثر الخاص، لا بد وأن تكون بتخصيص الفاعل المختار. فثبت بهذا البرهان الذي ذكرناه أن محرك الرياح هو الله سبحانه وتعالى. وثبت بالدليل العقلي صحة قوله وهو: * (الذي يرسل الرياح) *.
المسألة الثالثة: قوله: * (بشرا بين يدي رحمته) * (النمل: 63) فيه فائدتان: إحداهما: أن قوله: * (نشرا) * أي منشرة متفرقة، فجزء من أجزاء الريح يذهب يمنة، وجزء آخر يذهب يسرة، وكذا القول في سائر الأجزاء، فإن كل واحد منها يذهب إلى جانب آخر فنقول: لا شك أن طبيعة الهواء طبيعة واحدة ونسبة الأفلاك والأنجم والطبائع إلى كل واحد من الأجزاء التي لا تتجزأ من تلك الريح نسبة واحدة، فاختصاص بعض أجزاء الريح بالذهاب يمنة والجزء الآخر بالذهاب يسرة وجب أن لا يكون ذلك إلا بتخصيص الفاعل المختار.
والفائدة الثانية: في الآية أن قوله: * (بين يدي رحمته) * أي بين يدي المطر الذي هو رحمته والسبب في حسن هذا المجاز أن اليدين يستعملهما العرب في معنى التقدمة على سبيل المجاز يقال: إن الفتن تحدث بين يدي الساعة، يريدون قبيلها، والسبب في حسن هذا المجاز، أن يدي الإنسان متقدماته